شعار قسم مدونات

ما هؤلاء بشرا

مدونات، بشار

الثامن عشر من شهر مارس عامَ ٢٠١١.. ذلك يوم مشهود! صرخات الغضب انطلقت من أقصى الجنوب السوري المبارك معلنةً أن زمانَ الاستعباد قد انتهى، فبعد اليوم لن ينفع الظالمَ مالٌ ولا بنون، في هذا اليوم انفجر البركان الذي ظل قرابةَ أربعين سنةً من الزمان محتقنًا، في هذا اليوم أعيد إحياءُ (ربيعِ دمشقَ) الذي انطلق بدايةَ الألفية الجديدة ولكنْ، سرعان ما أحالته أدواتُ القمعِ -وقتئذٍ- خريفًا أصفرَ قاحلًا لا مظهرَ للحياة فيه، معلنةً أمام الملأ أنَّ السلطةَ التي جاءت بفوّهات البنادق لا تُحمى من المرضى بداء الحرية إلّا بالبنادق.

عاد (ربيعُ دمشقَ) لكنّه هذه المرةَ لم يكن لدمشقَ وحدها بل كان لحلبَ وحمصَ وحماةَ ودرعا وديرِ الزور كان ربيعًا سوريًّا خالصًا، وهذه المرةَ كان الربيعُ الخيارَ الأوحدَ الذي لا عودة منه ولا خريفَ فيه. ومنذ تلك اللحظةِ -بل قبلَها- بحث النظامُ السوريُّ في جعبته عن دواءٍ لوباء "الحرية" الذي اعترى عقولَ هؤلاء المجانين! فلم يجد إلّا مجزرةَ (حماة) ومجزرةَ (جسرِ الشغور) ومذبحة (تل الزعتر). أعتذر لكم؛ فلم تكن هذه الأمورَ الوحيدةَ التي وجدها فقد وجد غيرها (سجنَ تدمر) و(سجنَ صيدنايا) وما اقترن بهما من صنوف العذاب والآلام والجراح! ومن لم يكن في ماضيه سوى الإجرامِ والقتلِ والاعتقالِ والتعذيبِ لن يكون حاضرُه مزدهرًا بالحرية واحترامِ كرامة الإنسان وحقوقِه، لا تعحبوا من نظام لم يعرف يومًا إلا لغةَ القتل إن تحدّث بها، وأعتذر لكم -نيابةً عنه- إن لم يتحدث بلغة الحرية؛ فهل سمعتم يومًا غرابًا يغرّد بأجمل الألحان؟

لم ينتظر ذلك النظام على بداية الثورة طويلًا ليبدأ بصياغة عباراتٍ بليغةً بلغة القتل التي لا يعرف سواها، فهي لغته الأمُّ والوحيدة، فمن يجاريه فيها؟ وبدأت مقاطعُ التعذيب والقتل والاعتقال القصري تنتشر وبدأنا نراها، وصدقًا هي أكثر بكثير من أن تحصى أوأن تذكر، فقد رأيت منها الكثير ولكنّني نسيت أكثر، ووقفت الذاكرة عاجزةً أمامها فلم تجمع منها سوى القليل وما خفي أعظم.

لن أنسى كيماويَّ الغوطةِ وخانِ شيخون، لن أنسى ملايين المهجّرين ولا آلاف المعتقلين. لن أنسى الكثير مما علق بالذاكرة عن مظاهر إجرام ذلك النظام الذي أتعب الطغاة والمجرمين مِن بعدِه! بل صار نموذجًا مثاليًّا يصعب الوصول إلى إجرامه وقبحه.

لكنّني مع ذلك كلِّه، لن أنسى (إبراهيم القاشوش) الذي كان يصدح بأعلى صوته "يلا ارحل يا بشار" ويرددها وراءها نصفُ مليون حمويّ. لن أنسى (حمزة الخطيب) وكيف تم تعذيبه بأبشع طرق التعذيب التي لا تخطر على عقل بشر! لن أنسى ذلك الذي دفن حيًّا ليرغموه على الاعتراف ببشار الأسد إلهًا ولكنّ هيهات، فالذي عاش حرًّا لا يموت إلا حرًّا. لن أنسى (كركون الشيخ حسن) الذي يقع تحت مقبرة باب الصغير في قلب دمشق، وكيف يصبح حلمُ الحيّ فيه أن يلتحق بالموتى من فوقه، ففي هذه الظروف يصير للموت طعم حلولا يجده الأحياء.

لن أنسى عشرات الروايات عن (الفرع ٢١٥) أوكما يسمى "فرعَ الموت" وهوالفرع الشهير الذي ظهر ضحايا التعذيب فيه في الصور التي نشرها (القيصر)، لن أنسى كيماويَّ الغوطةِ وخانِ شيخون، لن أنسى ملايين المهجّرين ولا آلاف المعتقلين. لن أنسى الكثير مما علق بالذاكرة عن مظاهر إجرام ذلك النظام الذي أتعب الطغاة والمجرمين مِن بعدِه! بل صار نموذجًا مثاليًّا يصعب الوصول إلى إجرامه وقبحه.

مصابُ العقول من هذه المشاهد عظيم والبلاء كبير، لكنّها -على عظمتها- كانت ضمن المعقول لكنّني أعترف لكم أن عقلي توقّف تمامًا مرّتين: الأولى عندما فكرت بهؤلاء المجرمين الذي يقومون بالقتل والتعذيب والاعتقال والإعدام، كيف فقدوا كلَّ ذرةٍ من الإنسانيّة؟ كيف ماتت قلوبهم لهذه الدرجة العجيبة؟ بل كيف أماتوها؟ لقد استغرقت كثيرًا في التفكير بهؤلاء حتى تعب عقلي، حتى ظننت للحظة أن هذا أقصى درجات العجب، لكنّ هذا العجب ظهر طفلًا صغيرًا يحبوأمام العجب الذي وقعت فيه عندما تساءلت عن حال الذي يبرر لذلك النظام ما يفعل ولا يدخر كذبةً صغرت أوعظمت لتبرأته من جرائمه التي أدركها القاصي والداني.

ولا أتحدث هنا عن الذين ما زالوا مخدوعين ولا عذر لهم، بل أتحدث عن الذين يعترفون بالإجرام الحاصل، فتارةً يختبئون خلف ستار العروبة، وتارةً خلف عداء الإمبريالية، وتارةً خلف المؤامرة الكونية، وتارة خلف محاربة التطرف، يقفون بين أسنان الأسد المضرّجة بدماء الغزال لمحاربة الإرهاب، يقفون في قلب المشروع المجوسي ليدافعوا عن العروبة، يقفون فوق رفات السجين للذود عن السجّان، يصرخون في وجه الحرّة لأنها قاومت مغتصبَها! شاهت الوجوه وسقطت الأقنعة التي كانت تغطيها ولعنت الإنسانيةُ نفسَها بعدكم.

أما أنا فأترك هؤلاء وأعود إلى عقلي وحيرته، وأرمي أوراقي كلَّها أمامَه وأعترف له أنني وقفت مكتوفَ الأيدي، فلا حولَ لي ولا قوّة اليومَ لإخماد نار الحيرةِ التي اشتعلت فيه، فلا أملكُ الآن سوى كلامتي الأخيرةَ لإجابته عن حالهم إذا ألحّ عليّ بالسؤال: "ما هؤلاء بشرا!"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.