شعار قسم مدونات

مَن هو الفنّان؟

blogs - music
صارت صفة الفنّان تُطلق على كلّ مَن يمتهنُ مجال التصوير والرسم والتمثيل والإخراج والموسيقى والأدب. وإنّ هذه المجالات ركبها الهُوَّاة وقليلو الباع فما بَرِحَت السّاحة الفنية العالمية والعربية على وجه الخصوص تُعاني غياب الموهبة والذائقة الفنية لدى مَن يدّعون أنهم فنانون. وقلّما نجد مَن ارتقى به الأمر إلى مرحلة الابتكار والخلق والإبداع.

ينبغي على الشخص حتى يُلقّب ب"الفنّان" ويكون جديراً به أن يمتلك في كينونته موهبة عبقرية تُمكّنه من الانفعال عاطفيّاً إزاء شيء ما في الحياة. وعلى قول مصطفى لطفي المنفلوطي: ليسَ أشعرُ الشّعراء أحفظَهم لقواعد اللغة وقوانينها بل أدقّهُم شعوراً وألطفهم حِسّاً، وليسَ أفضلُ المغنّين أعلمهم بفنون النّغم وضُروبِ الإيقاع بل أنظفهم قلباً وأفصحَهم فؤاداً.

إنّ لغالبية البشر انفعالات عاطفيّة تجاه كلّ ما يُطرب مسامعهم ويسرق أنظارهم ويُذهل عقولهم لكنّهم غيرُ جديرين بإخراج العواطف والتّعبير عنها بشكل فني.

وما مَلَكَ نوابعُ الممثّلين أفئِدَةَ النّاس وقلوبهم في مواقف تمثيلهم ولا استدرُّوا دموعَ الباكينَ من محاجرها إلاّ لأنّ لهم قلوباً حزينةً مُتَفَجِّعَةً تتأثّر بصُوَر الوقائع التي يُمثلونها… وما قواعد الشّعر والموسيقى والرسم والتصوير إلاّ حدودٌ يتّقي بها المُقلّدون المُحتذون الوقوع في الخطأ الفنّي. وأؤيّدُ هذه الفكرة بمقولة شهيرة دوستوفسكي صاحبها والتي يقول فيها لستُ مُثقفاً ولكنني أستطيع أن أحسّ وأن أشعر.

ولكن هل هذا كافٍ ليكون المرء فنّاناً؟ كلاّ، بمقدور كلّ الناس أن تُحسّ وأن تشعر. فلكي يُلقى على المرء لقب الفنّان باستحقاق فذلك يتطلّب وإلى جانب الانفعال العاطفيّ حيال كل شيئ أن يكون هذا الأخير صاحب انفعال ذهنيّ أيضاً ليتمكّن بذلك من رسم انفعالاته العاطفية في أوضح صُورها لتتّخذ شكل العمل الفنيّ الإبداعيّ القائم بالأساس على الأصالة.

فإنّ لغالبية البشر انفعالات عاطفيّة تجاه كلّ ما يُطرب مسامعهم ويسرق أنظارهم ويُذهل عقولهم لكنّهم غيرُ جديرين بإخراج العواطف والتّعبير عنها بأيّ شكل من أشكال الفنّ وأيّ لون من ألوانه العديدة. يعود ذلك لغياب الحضور الذّهني الّذي يُعتبر في غاية من الأهميّة. فأن يَجمعَ المرء بين العبقريّة الإلهيّة والذائقة الفنيّة العالية والموهبة الفذّة ليسَ بوسعه أن يكون إنساناً عادياً البتَة سيكون وبكلّ بساطة فنّاناً.
 

إنّ مجرد لمحة من حياة فنّان توحي لك بغرابته، ولا تلبثُ أن تُدرك أنه على غير بقية البشر. فعلى سبيل المثال "فرانتس كافكا" الأديب الأشهر ذائعُ الصّيتِ أستُخلصَ من الرسائل التي كان يتبادلها مع خطيبته أنه انفصل عنها ليعود لها بعد ذلك وتكرّر الأمر مِراراً دون أن يُقيَّض لهما أن يتزوّجا لأنه كان في كل مرة يلوذ بالعزلة، وشديد التّمسُّكِ بوحدته مُعتبراً إيّاها ضروريّةً له باعتباره كاتباً.

على الضّفة الأخرى نجد النّوع الآخر من الفنّانين الذين قذفت بهم موهبتهم إلى خانة المجانين ولكنّهم في الحقيقة هم كذلك بسبب إدراكهم ووعيهم المبالغ حيال كل شيء مُحيطٍا بهم.

ولمحة ثانية نُلقيها على حياة الكتاب والرّوائيّ الأمريكي إرنست همنغواي، الّذي فاز بجائزة نوبل للآداب عن رواية "العجوز والبحر" التي تميّزت بالنّظرة السوداوية الشديدة للحياة، ويُعدُّ هذا عاملاً رئيسيّاً في فوز الرّواية بجائزة نوبل، ويعود ذلك -النظرة السوداويّة- للحياة البائسة التي عاشها والتي ما خَلَت سنة واحدة فيها من اضطرابات فظيعة وأمراض شتّى!

فلقد أصيب ب"الجمرة الخبيثة"، "الملاريا"، "الالتهاب الرئوي"، "سرطان الجلد"، "التهاب الكبد"، "فقر الدّم السّكري"، "تمزّق الكلى والطحال"، وأخيراً وليس آخراً "كسرين" أحدهما في الجمجمة والآخر في العمود الفقريّ، على إثر تحطّم طائرة في إفريقيا. حَضُرَ الحرب العالمية الأولى وشَهِدَ الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وشارك بدوره في الحرب العالمية الثانية، فهل لشخص سويٍّ عاش حياةً مستقرّةً أن يأتي لنا بأعمال تُضاهي أعمال إرنست همنغواي؟ إنّ الإبداع يولد من رحم المعاناة…

على الضّفة الأخرى نجد النّوع الآخر من الفنّانين الذين قذفت بهم موهبتهم إلى خانة المجانين ولكنّهم في الحقيقة هم كذلك بسبب إدراكهم ووعيهم المبالغ حيال كل شيء مُحيطٍ بهم، والإحساس المرهف والنِّظرة الثاقبة في خوافي الأمور، والتّشكيك بأبسط الأمور وأصغرها شأناً، مِمَّا يدفع بهم حتماً إلى الجنون.

وأشهر القصص جنوناً تعود لرسام قطع أذنه زاعماً أنه يسمع جلبةً وأصواتاً صاخبةً جدّاً إلى الدّرجة التي يستحيل معها التّحمُّل رُبّ لحظة صبرٍ أخرى الأمر الّذي جعله يقطع أذنه، ولكنّه استغلّ أذنه المقطوعة في رسم لوحة لصورته الشخصية، ألا وهو "فان غوغ"، وفي حقيقة الأمر يقول علماء أنّ تلك الأصوات الرّهيبة لا وجود لها في الواقع ولكن بالنّسبة لفان غوغ الأمر عاديّ لأنه لو لم يكُن كما هو عليه من جنون لما كان فنّاناً.

إنّ الذين يملكون مواهب عالية يخشون أكثر ما يخشون أن يعدّهم الناس مضحكين وهذا هو سبب شقائهم.  هكذا قال العبقريّ دوستويفسكي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.