شعار قسم مدونات

ملائكة القضبان

blogs - معتقل
شاء ذاك القدر أن أكون حيث لا أريد أن أكون، في ذاك المكان بالذات حيث لا يتمنى أحد أن يكون. فلم أتخيل يوما أنني سأترك عالم الأحرار لأدخل عالما أخر لا حديث فيه إلا عن الحرية. هذا العالم الذي ساءني كثيرا دخوله منذ الوهلة الأولى ولم أتقبل أن أكون هناك، لكن مع مرور الوقت انسجمت مع واقعي الجديد، وأيقنت بأن تلك مشيئة قدير مقتدر.
 
تلك المشيئة التي قادتني إلى ذلك المكان الضيق الذي تفصلنا أسواره العالية عن عالم الأحرار، ذلك المكان حيث لا رحمة، لا شفقة، ولا منطق هناك يسود، بل فقط عالم يعج بالفوضى والضياع خلف ثنايا الزمن البطيء، فالكل هناك يعيش في راحة كما يبدو، لكن العقول أنهكها التفكير وأنهكها الزمن الذي يبدو جامدا وتلك المواضيع التي باتت مستهلكة ولم تعد تنسينا مرارة الأيام.

هؤلاء لا تكاد الابتسامة تفارق محياهم رغم ألم المعاناة واختاروا أن يتسلحوا بالأمل، مقتنعين بأن ما يسقط من أوراق الشجر يبعث الحياة من جديد.

في هذا العالم الذي جمع بين متناقضات الحياة، بين الغني والفقير، بين المثقف والأمي، بين العسكري والمدني، بين القاضي والمتهم، هؤلاء الذين تظهر بينهم فوارق كبيرة لكن تجمعهم المعاناة وتجمعهم زنازين القهر التي تغتال ماضيهم وينسجون فيها حاضرهم ببطء شديد حيث لا معنى هناك لما كنت عليه بل ما أنت عليه الآن.

في عالم القهر الذي جعل من الشر ركنا أساسيا من أركانه، فانحبس الخير ولم يعد إلا ذكرى حبيسة في قلوب أنهكها الحنين إلى الماضي، هناك يعيش من أسميهم بملائكة القضبان، هؤلاء الذين ظلمهم القدر وظلمتهم أحكام جائرة ليجدوا أنفسهم يقضون سنوات من عمرهم بين الزنازين، هؤلاء الذين لا حاضر لهم في عالم الأحرار من يحلمون بلحظة حرية واحدة فقط، وينتظرون عدلا إلاهيا ينصفهم أمام انعدام العدالة البشرية.

هؤلاء الذين تلاشت صورهم في ذاكرة الأحرار مع مرور الزمن، وتاهوا بين متاهات النسيان، وعاشوا قدرهم بصمت شديد في صراع مع واقع مرير تنعدم فيه الإنسانية، فتمسكوا بإنسانيتهم وحافظو على نبلهم وسط من يحافظون على نذالتهم.

في تلك المدة التي قضيتها هناك حيث كانت لي الفرصة لمجالسة الذات ومراجعة أخطاء الماضي، كما كانت لي الفرصة أن أتعرف على أناس سميتهم بملائكة القضبان فهم من خضع القهر أمام صبرهم وعزيمتهم، من عاشوا الظلم ورفضوا أن يجعلوه قاعدة تربطهم بأحرار هذا العالم وتربطهم كذلك بمن هم أيضا يدفعون من عمرهم فاتورة ذنب اقترفوه.

هؤلاء الذين لم يكتب لي القدر نسيانهم، فكيف لي أن أنسى صورهم التي تدمغ الذاكرة، فهؤلاء لا تكاد الابتسامة تفارق محياهم رغم ألم المعاناة واختاروا أن يتسلحوا بالأمل مقتنعين بأن ما يسقط من أوراق الشجر يبعث الحياة من جديد، وإن سقوطهم في قاع القهر لا يعني نهاية المشوار، بل فقط لحظة عابرة وإن طالت تبعث بما هو أفضل وتمنح فرصة ثمينة لمجالسة الذات وتدارك أخطاء الماضي، وأنه كما أتوا إلى ذاك المكان سيغادرون، سيغادرون بأفضل مما كانوا عليه ليعانقوا حرية لطالما استحوذت على أحلامهم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان