كانت محاضراتي في فترة دراسة الماجستير تأتي غالباً مساء، وكنت أعود للبيت مسرعة بشوق ولهفة لاحتضان طفلتي والحديث عن يومي الدراسي مع زوجي الذي يقضي الوقت معها لحين عودتي.
لكن المشاعر تلك سرعان ما كانت تتسمّر بمجرد فتح الباب، وإذ بالبيت وكأن انفجاراً للتو حصل، فتناثرت الألعاب على طول الممر من الباب الرئيسي للشقة لتمتد ناحية الصالة من أولها لآخرها.. وطفلتي "ميرة" تقفز بانفعال وفرح لرؤيتي بينما يجلس زوجي على الأريكة مبتسماً ابتسامة عريضة بريئة تشبه براءة طفلتي.
أذكر كيف كنت أمسك أدمعي فيما أحاول الوصول لاحتضانها دون أن أدوس على الألعاب، وبخاصة قطع الليجو ومكعبات الحروف التي ما إن تدوسها حتى ترديك طريحاً، لكنني كنت أحضنها وألاعبها وكأنني لم أرَ شيئاً.
دعت كاتبته "لمياء المقدم" أن نترك أبنائنا يعيثون في البيت لعباً دون أن نتعب أنفسنا عناء الترتيب ولملمة القطع الصغيرة والكبيرة المتناثرة على كامل أرضية البيت لأن خيالهم وأبداعهم لا ينمو بدون هذه الفوضى |
كانت "ميرة" تطلق العنان لطفولتها في غيابي، فيسمح لها والدها بنثر صندوق الألعاب كاملاً والذي يحوي كل أنواع الدمى والألعاب بأشكالها وأحجامها على الأرض وفوق الطاولة وبكل مكان، فيما تبدو الأغراض الأخرى ككوب الحليب البلاستيكي وصحن الفاكهة وقشور البرتقال مرمية هنا وهناك بين الألعاب، وكنت كلما عاتبته على الفوضى التي أجدها لدى عودتي يقول: "خليها تلعب".
وحتى السنة الثانية من عمر ابنتي الأولى كنت ما زلت أعتقد أنني قادرة على ضبط الفوضى في البيت، كنت أجلب لها لعبة واحدة كل مرة لتلعب بها، وأحاول منعها من نكش الأدراج والخزائن وأحاول لملمة كل شيء ورائها كمن يلاحق قربة ماء مثقوبة، و"ميرة" كانت تعتقد أنني ألعب معها فتنثر الأشياء أكثر بينما أنا أرتبها.
اليوم أعطيت نفسي جرعة مضادة للفوضى، وكانت الإبرة مضاعفة المفعول.. فلن ينفع مع وجود طفلتين وعشرات الألعاب ومئات الطلبات أن أظل ألاحق كل شيء مرمي وأن أظل أرتب وأنظف طوال اليوم.
اليوم بيتي تملؤه الفوضى خلال النهار؛ فالصالة مزرعة للألعاب، ورغم وجود طاولة صغيرة خاصة بالطفلتين لكن طاولة غرفة الجلوس الصغيرة صارت مسرحاً للقصص والدفاتر والألوان ولم تسلم في الطاولة مساحة صغيرة دون خدوش، بل إن "مريم" طفلتي الثانية تعتقد أنها لوح للكتابة، فيما تتبرقع كراسي الجلوس "الكَنَب" بكل أنواع وأشكال بقع الطعام من أيديهما وتمتلأ بالرسومات بألوان متعددة، ناهيك عن كونها مرتعاً للقفز المظلي الخاص بـ"ميرة".
أما الجدران فهي عامرة بالألوان الزاهية والخطوط الدائرية، فـ"ميرة" عرفت أن الجدران لم تعد مكانها المفضل للتلوين وانتقلت للورق، لكن "مريم" أختها الصغرى ما تزال مقتنعة بضرورة تزيين الحيطان الفارغة بالبقع الملونة والخطوط المشلبكة إضافة الى الصور اللاصقة "الستيكرز".
وقد بردَت أعصابي تقريباً، وأعترف أن الغربة ساعدتني على التأقلم مع شعور تقبل الفوضى الطفولية تلك، وارتحت لفكرة أن كل ما نقتنيه من أثاث بسيط هو مؤقت وسنتخلص منه بعد انتهاء مدة إقامتنا بغرض الدراسة، ولأنني اقتنعت بعد سنوات الزواج أن فكرة الحفاظ على الأثاث جديداً ليست بتلك الأهمية فعلاً، لأن الأثاث والألعاب والطاولات وكل شيء ماديّ سيتبدل.. بينما عقول الأطفال تنمو وتتطور وليس لها بديل.
قبل سنوات زرت مع أختي صديقة لها وهي أستاذة جامعية ولم أكن متزوجة بعد، كان أطفالها الأربعة يقفزون ويتشعبطون بكل شيء ويلفون البيت بالدراجات البلاستيكية وألعابهم متناثرة في كل مكان، استغربت أنها كانت طبيعية جداً غير مرتبكة من شكل بيتها ومن لعب أطفالها حولنا، وقد قالت أختي لي في ما بعد إن صديقتها تقول لها كلما سألتها: "خليهم يلعبوا".
أما أنا فقد تجاوزت ذلك بالسماح لبناتي بالأكل والشرب كما تحبان أيضاً شريطة أن تلتزما بطاولة الطعام حتى لو أصبحت الطاولة أثناء الوجبات خريطة العالم وما تحتها كارثة مُعتبرة، ورغم أن تركهما يتعلمان الأكل بأنفسهما زاد عبأ التنظيف والغسيل، لكنني بدأت أرى فائدته مثمرة وطيبة.
قبل أيام قرأت مقالا حول الفوضى التي يُحدثها أطفالنا في البيت، دعت كاتبته "لمياء المقدم" أن نترك أبنائنا يعيثون في البيت لعباً دون أن نتعب أنفسنا عناء الترتيب ولملمة القطع الصغيرة والكبيرة المتناثرة على كامل أرضية البيت لأن خيالهم وأبداعهم لا ينمو بدون هذه الفوضى، لأن "البيت المرتب قسوة على الطفل وسرقة لطفولته" كما أشار عنوانها.
وقد اتفقت مع جزء كبير من المقال لأنني أطبقه دائماً، لكنني أختلف مع الكاتبة في ضرورة إدارة تلك الفوضى وليس فقط أن ننتبه لسلامتهم، فعلى سبيل المثال أطلب دوماً معاونة "ميرة" و"مريم" في ترتيب البيت في نهاية اليوم قبل أن نبدأ طقوس النوم، وأحاول أن أشرح أننا لن نستطيع النوم والألعاب بغير مكانها، كما أن علينا الحفاظ على ألعابنا وأشيائنا، وقد بدأت "ميرة" على الأقل لاقترابها من الأربع سنوات بتفهم الأمر شيئاً فشيئاً.
لا بأس بالفوضى حينما يخلقها أطفالنا وهم بعمر الورود، وتحمّلن أيها الأمهات بروح صبورة وقلب قنوع وأعصاب باردة خراب الأثاث وتكسير الأشياء وتلوين الجدران وتوسيخ الثياب |
أؤمن تماماً أن الفوضى تكون خلاقة وتثير خيال الطفل وتنمي إبداعه وتعلمه الكثير، عندما نتركه يلعب على هواه دون قيود ودون توبيخ وأن نترك له مساحة من الحرية للعب في كل شيء متاح وغير ضار، لكن صقل قيم النظام والترتيب والنظافة مهمة كذلك لمخيلته ومهاراته المستقبلية، فحتى اللعب يجب أن يكون منتظماً في أحيان كثيرة، فمثلاً حين تطلب "ميرة" الألوان المائية للرسم على الورق أطلب منها لملمة الليجو والمكعبات قبل ذلك لأن مكان اللعب لا يتسع للرسم، وعلينا أن نرتب ما لعبنا به لنلعب بشيء جديد، كما أنني أحرص على ترتيب الأشياء وإعادتها لأماكنها وصناديقها معهما حتى تجدانها في اليوم التالي عندما تقرران اللعب بها.
لا بأس بالفوضى حينما يخلقها أطفالنا وهم بعمر الورود، وتحمّلن أيها الأمهات بروح صبورة وقلب قنوع وأعصاب باردة خراب الأثاث وتكسير الأشياء وتلوين الجدران وتوسيخ الثياب، فأثاث العُرس لابد وأن يصير قديماً ويتغير ولو بعد سنين، وجُدران البيت لابد وسيُعاد دهانها كل فترة وأخرى، والألعاب ستُهمل بعد حين في صناديقها، والصغار سيكبرون وسنشتاق ليوم واحد من الفوضى البريئة التي كانوا يحدثونها.. لكن هل عرفتم كيف تُديرون تلك الفوضى حتى ذلك الحين؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.