شعار قسم مدونات

الرغيف " قمر الفقراء" المخسوف بمصر

blogs - revolution

العيش يعني الحياة، لكنه عند المصريين يعني الخبز.. انفراد في التسمية وجد له مكانا في الدارج من القول لدى أهل مصر إذ يقولون "أكل العيش"، وبه يقسمون "والعيش والملح" وهو في الفن والأدب "قمر الفقراء البعيد".

 

وفي الحروب سلاح يفوق أسلحة الدمار الشامل بمراحل، وفي السياسة، أكبر الأحزاب الثورية في تاريخ الأمم تشهد بذلك الثورة الفرنسية. كان العيش مطلبا رئيسيا من مطالب ثورة 25 يناير قبل أربع سنوات، إلى جانب الحرية والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.

  

ومن أجل ان تتوه مطالب البسطاء المشروعة وعلى رأسها رغيف الخبز انطلقت في مصر ولا تزال "زوابع" جديدة ما لبثت أن أصبحت عواصف لتزييف الوعي وتشتيت الانتباه أبطالها نكرات جديدة تتطاول على الدين تهكما، وتشكيكا، وصولا إلى حرق الكتب، والدعوة إلى خلع الحجاب، والمسلسل حافل بالحلقات المقبلة لصرف الناس عن مطالهم الرئيسية بعد نكسات جديدة آخرها التوقيع على بياض لأثيوبيا بشأن سد النهضة التي تأتي في صلب الزراعة وفي مقدمتها المحاصيل الرئيسية التي لا غنى عنها لقوت ملايين المصريين.

 

وقضية القمح وتحقيق الاكتفاء الذاتي منه بمصر قضية أمن قومي حقيقية وليست "محتملة" على شاكلة "الإرهاب المحتمل" وتستحق "تفويضا" حقيقيا لتوفير الأمن الغذائي وزراعة المقوم الاساسي لقوت العباد، فمصر بلد زراعي في المقام الأول، وتلك حقيقة جغرافية تجسدت تاريخا وحضارة.

إعلان

 

أرضها الزراعية "خزائن الأرض" بشهادة نبي الله يوسف الذي طلب من عزيز مصر أن يجعله أمينا عليها، لأنه "حفيظ عليم"، قصدها الجيران حين جاعوا طالبين قمحها، كانت سلة القمح للرومان وإمبراطورتيهم حين آلت إليهم، كم أطعمت، وكم علمت..، فلاحها أقدم فلاح مستقر في الكون منذ آلاف السنين، لكنها أصبحت أكبر مستورد للقمح في العالم.

 

وبين كان وأصبح تفاصيل يطول شرحها قلصت الزراعة في بلد الزراعة، وتقلص المزروع من الأرض في خزائن الأرض، حتى بلغ الأمر بالمفكر المصري جمال حمدان ـ الذي رحل عن عالمنا في ظروف غامضة عام 1993 ـ حد الحسرة على تلك الحالة حين يقول في أوراقه الخاصة إن "مستقبل مصر أسود والخيار أمام البلاد لم يعد بين السيء والأسوأ بل بين الأسوأ والأكثر سوءا".

 

كما يبدي خوفه من تراجع مساحة الزراعة "التي تعني الحياة للبلاد ومن غير الزراعة ستتحول مصر إلى مقبرة بحجم الدولة لأن مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث ولا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة الجانحة".

 

السبب في هذا الاستشراف المتشائم للراحل جمال حمدان هو تآكل الرقعة الزراعية في مصر والذي بلغ معدله في بعض الحالات 1.1 فدان كل ساعة بسبب التعدي بالبناء علي الأرض الزراعية لمواكبة الزيادة السكانية، في ظل تعامي الجهات المسؤولة، والرشاوى الانتخابية الحكومية، فعلى مدى العقود الأربعة الماضية تآكل ما يقرب من نصف أراضي دلتا النيل في مصر من خلال التجريف و التوبير والبناء العشوائي فوق الأراضي الزراعية القديمة ، فكانت النتيجة اغتيال أخصب الأراضي الزراعية علي مستوي العالم في الوادي والدلتا، فهيرودوت يقول إن مصر هبة النيل، حيث تكونت تربتها عبر آلاف السنين من الطمي الذي يحمله النيل في جريانه وهو أمر لا يتكرر مرة أخري في عمر البشرية. وهذا الأمر يعتبر يعتبره عالم الجيولوجيا فاروق الباز "كارثة" وطالما نبه أن ما يقرب من 30 ألف فدان من الرقعة الزراعية تتأكل سنويا بسبب المباني العشوائية، وحذر من أنه "بعد مرور 134 عاما ستنتهي الأرض الزراعية في مصر".

إعلان

 

مصر هي المستورد الأول للقمح في العالم، حيث تستورد نحو تسعة ملايين طن من القمح سنويا وتستهلك ما بين 12 إلى 14 مليونا، وبدأت استيراد القمح في نهاية الستينيات من القرن الماضي

التقليص لا يقف فقط عند الأراضي التي لا تعوض بل ثمة تقليص منتظر يتعلق بحصة مصر من مياه نهر النيل حيث تعكف إثيوبيا أهم دول المنبع على بناء سد النهضة ما يعني أن مشكلة كبرى تنتظر الأراضي الزراعية في مصر البالغة حوالي 8.6 مليون فدان منها 6.2 مليون فدان أراض قديمة، و2.3 مليون فدان أراض جديدة، وهذه المساحات من الأراضي لا تكفي لاحتياجاتنا الغذائية المتزايدة. في وقت تستورد مصر حاليا 60% من احتياجاتها الغذائية يتصدرها القمح.

 

 فمصر هي المستورد الأول للقمح في العالم، حيث تستورد نحو تسعة ملايين طن من القمح سنويا وتستهلك ما بين 12 إلى 14 مليونا، وبدأت استيراد القمح في نهاية الستينيات من القرن الماضي باستيراد عشرة آلاف طن قمح، ثم استمرت الفجوة حتى تفاقمت في نهاية عصر أنور السادات وبلغت ذروتها في عهد حسني مبارك.

 

وخلال العام المالي 2012/2013 الذي تولى فيه محمد مرسي رئاسة مصر، استطاعت مصر أن تخفض استيرادها من القمح بنسبة 10%، وتم الإعلان عن سياسة زراعية واقتصادية هدفها تحقيق اكتفاء ذاتيا نسبيا من القمح، من دون التعرض لضغوط على مصر، واتجهت لتشجيع المزارع على زراعة القمح من خلال الحافز المادي ليكون المحصول ذا مردود اقتصادي ولم يقتصر دعم الفلاح في مجال زراعة القمح على الحافز المادي، بل قدمت له خدمة الإرشاد الزراعي بشكل ملموس مما أدى إلى تحسن الكميات المنتجة في هذا العام.

 

ولكن بعد الانقلاب عادت مصر لتبني سياسة الاستمرار في الاعتماد على استيراد القمح، وخرج وزير التموين على الشعب قائلا" إن كون مصر المستورد الأول للقمح في العالم ميزة وليست نقطة ضعف لأن مصر تحدد في هذه الحالة الدول التي تستورد منها"

 

أكد كلام الوزير الشبهات الكثيرة المحيطة بملف القمح في مصر وهي شبهات سياسية أكثر منها اقتصادية، حيث يتحالف الفساد وعقلية "العمولات" مع حالة التبعية لتكريس الأزمة فقد ظلت أميركيا لفترات طويلة أكبر مصدري القمح لمصر، وحرصت على أن يكون موقف مصر الدائم هو التبعية لها في تدبير احتياجاتها من سلعة استراتيجية مثل القمح، حتى يمكن الضغط عليها في مواقف سياسية أخرى تخص الداخل المصري أو المنطقة العربية.

إعلان

 

أما مافيا الفساد فقد وجدت في التمسك باستيراد القمح موردا ثرا لها حيث تظهر الأرقام أن القائمين على تلك يأخذون عمولة تصل لـ35 دولاراً عن كل طن، وهو ما يعني حصولهم على نحو 250 مليون دولار سنوياً، وهو رقم لو وجه لدعم الفلاح وتدريبه على وسائل الزراعة الحديثة، أو استصلاح أراضي جديدة في سيناء و الساحل الشمالي لقلص تلك الأزمة، لكن الأمر يحتاج قيادة نظيفة، وإرادة سياسية واضحة، وقليل من الشعارات والغناء وكثير من العمل، علنا نكذب بذلك من قال ساخرا حين تحدث عن أزمة القمح متحسرا على أراضي الساحل الشمالي لمصر التي كانت تزرعه أيام الرومان، ثم تحولت إلى شاليهات ومراكز استجمام للمصيفين أن الرومان زرعوها قمحا والألمان زرعوها ألغاما خلال الحرب العالمية الثانية " أما نحن فزرعناها مايوهات

 

وما بين الاستجمام في شرم الشيخ ومنتجعاته والساحل الشمالي ومصايفه، وحلم العاصمة "الفاضلة" التي أرادها السيسي " أمس" يحار البسطاء أين يجدوا "قمرهم البعيد" الذي زاده الانقلاب خسوفا؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان