قد يكون الإنسان "دودة كتب"، لكن بأي جدوى؟ وبأي معنى؟ القراءة أن تكون على اطلاع واسع، أن تكتسب آليات النقد، أن تكون لك مَلَكَة الاختيار بين الجيد والرديء. |
وأنت تقرأ، ستجد نفسك في الحاجة إلى المزيد من المعرفة، كأنك تشرب من بحر أُجَاجٍ، وهو عذب فرات. وأنت تقرأ، لا تعتمد على ما يروج في شبكات الإنترنت، فعناق الكتاب ليس مثل مسك اللوحات، والمعرفة من بطون الكتب المحققة والمنقحة من طرف الخبراء والعارفين، ليس كما تجد في أمعاء الانترنت والكثير من وسائطه الاجتماعية. إن الكثير مما يطالع اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي، فيه القليل من المعرفة الممزوجة بالكثير من الهراء والتفاهة، واختلاط المفاهيم، وانتفاء المعايير، فيصبح المجرم بطلا، والظالم مظلوما، والحقيقة وهما، والوهم معرفة راسخة.
قد يكون الإنسان "دودة كتب"، لكن بأي جدوى؟ وبأي معنى؟ القراءة أن تكون على اطلاع واسع، أن تكتسب آليات النقد، أن تكون لك مَلَكَة الاختيار بين الجيد والرديء، أن تستطيع مناقشة المحتوى بكل جرأة وفعالية، القراءة ليست انطوائية أو أحادية المنهج، ولا أن تسير في اتجاه واحد كالجمل الأعور، القراءة تنوع، فهناك من يقرأ روايات الحب والعشق، لأنه يختزن بين أضلعه حبا مهزوما، يجد ضالته في الانتحاب، وسكب العبرات عبر ما جادت به قريحة الكاتب من تصوير أساليب العذاب القلبي، والصَّدِّ، والحب من طرف واحد.
هناك من يقرأ لينتحب عند محراب انهزاميته، ويسجد على ورق المقروء كأنه سجاد صلاة يلتمس منه سؤددا، القراءة إيقاظ همة، وإنهاض عزيمة، وتأجيج إرادة، أن لا تكون أقل شأنا من الكاتب، وأن يكون للقلم صداقة مع أصابعك، أن تخط ما بداخلك وما يتراءى لك، أن تتفق أو تعارض، لا أن تنساق وتنجرف مع ما تقرأ، حافظ دوما على مسافة بينك وبين الكتاب، حتى لا تصبح سجينا بين دفتيه، فبعض الكتب زنازين مطبقة، تحمل من الظلمة ما يكفي ليعميك عن الحقيقة والوعي، وعن إعمال العقل وإشغال القلب.
ونحن ندعو الشباب إلى القراءة، وجب علينا توجيههم، فالكتب الأكثر قراءة ومبيعا ليست دائما تحمل قداسة، أو مفيدة، فقد تكون مجرد خدعة تسويقية. |
القراءة أحيانا تصبح هوسا، وتقذف بالقارئ في دوامة من التفكير السلبي، تبعده عن العلاقات الاجتماعية، وتجعله يسقط الكثير من قراءاته على واقعه، إنه شيء جميل، لكن يجب أن يحذر من أن يصبح وسواسا قهريا، ورهابا اجتماعيا، ينأى به عن الخوض في الحياة المجتمعية. كثير من الكتب لا تستحق القراءة، وهذه ليست مدعاة للقلق ولا مجرد مضيعة للوقت، بل هي فرصة للتمييز، للبحث عن المعلومة الحقيقية، عن الصدق في المعطيات، فكثير ما يلتف الكاتب على معلومات تاريخية، إما جهلا أو تحويرا، أو مداراة أو تزويرا، فلا غرو في ذلك، مادام أن هناك من الأفاكين ودعاة الباطل، والأقلام المأجورة، تقوم ب"مَكْيَجَةِ" وجوه كالحة تنضح بالفساد والاستبداد والديكتاتورية، وتقلب الحقائق، وتجعل من الجلاد بطلا، ومن الضحية مجرما وجب القصاص منه.
وتجد الكثير من السذج، يتلقون كل تلك الترهات، مباركين ومشجعين، وإن خاطبتهم بضرورة الوعي والمعرفة، جابهوك بكونهم مجرد متفكهين، ولا عجب في ذلك فهم فعلا مُقَصِّرِينَ في طلب المعرفة، وإزاحة " طلاميس " الجهل وغشاوة البصيرة عن الأفهام والأذهان. لذلك، ونحن ندعو الشباب إلى القراءة، وجب علينا توجيههم، فالكتب الأكثر قراءة ومبيعا ليست دائما تحمل قداسة، أو مفيدة، فقد تكون مجرد خدعة تسويقية، الكتاب لا ينتقى من خلال نوعية ورقه أو القرص المدمج المقدم عبارة عن هدية يحتوي موسيقى ناعمة، أو بناء على غلافه الجميل ورسوماته وصوره الأنيقة، الكتاب بمحتواه كما يقول المثل المغربي الدارجي " المزوق من برا آش خبارك من الداخل ".
اقرأ على الأقل يمكنك تعلم كيف تكتب الهمزة، ومتى تحذف حروف العلة عن الجزم والنفي، فكثير ممن يقرؤون لا يجيدون ذلك، حيث تغيب الأذهان، وتسبح في تصوير ما تقرأ ممتطية صهوة جواد بلا لجام لتمارس فن "الفنطازيا" والتخييل الأعمى.
الحاجة إلى المعرفة، حاجة ملحة، في زمن أصبحت فيه المعلومة تسير بسرعة الضوء، بكبسة زر، في زمن صناعة الإشاعة، والحرب الإعلامية الخادعة، والضغط الإعلامي الرهيب، أسلحة تفتك بالعقول، وتسلب الإنسان القدرة على التحليل والمناقشة، على فرز "الْفَرْثِ من الدم"، واستنباط المعرفة الحقة، والابتعاد عن غوغائية الجدال والتنابز واستهداف الشخوص بعد مقارعة الآراء.
حاجتنا إلى المعرفة، كحاجتنا إلى المواد الحيوية للعيش، فكما يعاف الإنسان شرب الماء العكر، يجب أن يعاف الفكرة الخاطئة، والفعل غير السوي، والإشاعة المغرضة، وبعث الحقيقة والفضيلة والإبقاء على معين المعرفة نقيا لا تخوض فيه أيدي التافهين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.