شعار قسم مدونات

مركز ملّة إبراهيم العالمي

BLOGS - إبراهيم عليه السلام
افترقتْ المسيرة الرّسوليّة إلى طريقين متباعدين في المكان والوجود لكنّهما متّحديْن في الأهداف والأصول والأغراض، وحسب التوجيه الذي تلقّاه الشّيخ من ربّه سارَ بأهله نحو الأمكنة المقدّسة باعتبار خالق الكون وإرادته التي تهيمن على الإرادات وتحتوي كلّ التوجّهات، ولم يكن اعتباطيّاً أن أبقى ابنه وأمّه وحيدين بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرّم في انتظار الفتح الإلهي المؤكّد، ولم يكن عبثيّاً أن رجع قافلاً لابنه الثاني وأمّه الأخرى ليتابع تثبيت رسالة لأقوام وبشر من نوع آخر وخلفيّة ثقافيّة مختلفة..
 

وفي هذه الدائرة الضيّقة من العالم الفسيح ولكونها أتت وسطاً في الطبيعية الجغرافية للكون بأسره تفاعلت الأولويّات التشريعيّة في خطوط شبه متوازية أو متناغمة بين دين في مكة ودين في العراق والشام وبيت المقدس ومصر، وكأنّ الشيخ النبيّ إبراهيم أوكل له من أرسله للناس مسئولية توزيع المهام وتقسيم الأعمال النبويّة بين فريقي عمل وضع لكلّ منهما أساساً ينسجم وطبيعة الأرض التي يقطنون فيها..
 

نجِدُ الفهم القريب لأصول الديانات الربانية بسيطاً وميسّراً لمن انعتَق من أسْرِ العصبيّة والشيطان والجحود، ونجِدُ الوصول لحقيقة الأمر سالكاً ومُمَهّداً لمن سارَ بخطى ثابتة ورغبة في السلام العالميّ والعيش المشترك وعدم الإكراه في الدّين.

ولو استجمع الإنسان رأيه وتصوّره الخيالي لخريطة تجمّع هاتين المنطقتين لعرف بأن ذلك المجموع الشمالي الغربي الذي يحوي عراقاً وشاماً ومصراً يكوّن جزءً من بيئة عمل هذا الرسول أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام لكونه مكاناً متقارباً مكتظاً بالسكان والحضارة والأشخاص متقاربي الأجناس متباعدي الديانات الموروثة بالحقّ أو بالخطأ والتزييف، فوَجَب عليه زيادة الجهد والعطاء في منطقة تستحقّ أن يكون فيها سلسلة من ذرية الرسل والأنبياء ابتداءً منه ومروراً بيعقوب وأبنائه ويوسف وقصته وداود وسليمان وملكهما وموسى وأخيه هارون وبني إسرائيل وزكريَا وابنه يحيى حتى جاء عيسى بن مريم آخر الأنبياء قبل فترة طويلة من انتظار نبي آخر الزمان كما بشرَتْ به كتُب الديانات قاطبة في تلك المنطقة..
 

والجزء الآخر من بيئة العمل المسئول عنها إبراهيم عليه السلام نفسه هي منطقة الحجاز ومكة بالذات التي ترك فيها ولده إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر متوكلاً على ربّه الذي وعده بأن يتكفّل بهما طيلة فترة غيابه في مهامه الأخرى ببلاد بعيدة عن مسكن عائلته الأخرى، وكانَ إبراهيم نفسه يتعهّد هذا الجزء من حين لآخر وفق توجيه الوحي الإلهي زائراً وقاصداً بيت الله الحرام الذي أُمِر بأن يشيّدَ بناءه باشتراك ابنه النبي والرسول إسماعيل تمهيداً لدينٍ سيغمُر العالم والكون ختاماً وجمعاً..
 

وفي حين استمرّت التفاعلات الدينية والتَّجَاذبات التّشْريعيّة في بلاد الأنبياء والرسل ومكان وجود إبراهيم عليه السلام توفّي إبراهيم بفلسطين وتوالى الأنبياء بعده من ذريّته يتابعون مسيرته دون أن ينقطعوا عن ذكره والتذكير بملّته ورسالته التي كانت تتّخذ من التوحيد وعدم الإشراك بالله نبراساً وأساساً، ليكونَ اسم "إبراهيم" هو الحَكَمُ عند الاختلاف، وختَمَ عيسى عليه السلام قبل أن يغيبَ في سماء ربّ العالمين رَفْعاً وتكريماً تلك السلسلة الذهبيّة بأن قال إجابةً على سؤال ربّه تبارك وتعالى له "مَا قُلتُ لهم إلا ما أَمَرْتني به أَنِ اعبُدوا اللهَ ربّي وربَّكم..".
 

وتسارَعت الأحداث في البقعة النَائية البعيدة كلّ البعد سماعاً ومعرفة عمَا يحصل في بلاد الشام وبيت المقدس والعراق، ومضت عقود وقرون وتعاقبت قبائل وعائلات على السيطرة على مكة وخدمة بيت الله الحرام وسدَانتِه من ذرية إسماعيل عليه السلام حتّى تمّ الأمر لقريش وذاع صيتها في العالم القريب والبعيد وتأكّد أهل الديانات السماوية الشقيقة الأخرى بأنّ الوقت أصبح جاهزاً لبعثة نبيّ العرب وفق الإرهاصات التي رأوها عياناً وواضحة من جرّاء علمهم واطّلاعهم على الكتب السماويّة أكثر من العرب الأمّيين..
 

لا دين ربّاني الأصل موجود اليوم إلا وهو من إرث هذا الشيخ النبيّ العظيم أبو الأنبياء "إبراهيم" والرّسل جميعاً، ولو عادَ الكلّ لتحكيم ملّته في مسائل الاختلاف لرضي الجميع بأن تكون جملة "لكُمْ دينُكُمْ ولِيَ دِينٌ" هي القاعدة المشتركة.

وكأنّك هنا أمام عائلتين لرجل واحد أو فرعين لعائلة واحدة، الفرع الأول هو الأسبق والأكثر أولاداً وإنجاباً وتفاعلاً مع الأحداث ليجاري المنطقة التي وجد فيها، ليسجّل سبقاً في عدد الأنبياء والرسل والأحداث وتعاقُبِ الملوك والسيطرة والسّجال بين الدين والدولة والتنظيم والوحي الإلهي حتّى أصبحت تلك المنطقة مُزَوِّداً رئيساً لكل العالم بثقافة الدين وأساس الرسالات والانتماء للخالق الديّان..
 

والفرع الثاني ذهب بعيداً ليمثّل صمتاً طويلاً بمقدار المسافة الصحراوية الشاسعة بينه والفرع الأول في أحداث تنسجم والواقع الذي اختاره ربّ العالمين له تمهيداً لعمل كبير وحدَث جَلَل يحتاجُ هدوءً من نوع خاص وطبيعة جغرافية من جنس آخر أراد ربّ الناس لها أن تكون انطلاق عصر جديد من الرّسالات والنبوّات فيها شمول وختام وجمع وتحضيرٌ لنهاية هذا العالم بعد المدة التي لا يعلمها إلا من خلَق الدنيا وأبدعها..
 

اليوم وبعد مرور أكثر من 1440 سنة على بعثة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلّم- من ذرية إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام وأخوّة إسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى عليهم السلام وافتراق الناس لثلاث ديانات مسيطرة على العالم السماوي في الأغلب النصرانيّة واليهوديّة والإسلام، نجِدُ الفهم القريب لأصول الديانات الربانية بسيطاً وميسّراً لمن انعتَق من أسْرِ العصبيّة والشيطان والجحود، ونجِدُ الوصول لحقيقة الأمر سالكاً ومُمَهّداً لمن سارَ بخطى ثابتة ورغبة في السلام العالميّ والعيش المشترك وعدم الإكراه في الدّين..

فالطّبيعة الإنسانيّة لا تُغضِب أحداً والسُّنة الكونيّة لا يُنكرها عاقل، واختلاف الإخوة إرث قديم وتقليد أزلي منذ أن انطلق الكون وجاءتنا الأخبار والحكايات عن بَدْءِ نشأته، وقد قصّ عليننا ديننا ودينهم اختلاف قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام، وقصّ علينا ديننا ودينهم عتاب موسى لهارون عليهما السلام، وقصّ علينا ديننا ودينهم كيد الأسباط ليوسف عليه السلام، ولكنّ هذه الأمثلة الثلاثة انتهت برجوع المخطئ عن خطأه، واعتراف المُذنِب بذنبه، فهذا الأخ يقول عنه الله تعالى: "فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين" وهذا هارون عليه السلام يقول "يَا بْنَ أُمّ لا تَأْخُذْ بلحْيَتِي ولا بِرَأْسِي" وهؤلاء إخوة يوسف يقولون "يا أبَانا اسْتغفِرْ لنا ذُنوبَنا إِنّا كُنّا خَاطِئين"..
 

ومثلَما فعلَ إبراهيم فعلَ أبناؤه من الرّسل، فقد هاجَرَ إبراهيم من مكان مولده وكذلك فعل يعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد -صلى الله عليهم وسلّم جميعاً-، وجاهَدَ إبراهيم وكذلك هم فعلوا، وصَبَر إبراهيم وكانوا معه في ذلك الصّبر، وبشّر إبراهيم بهم وذكروه هم وترحّموا عليه، فهم منه وهو أبوهم..

بدَلَ أن نرفع شعارات حوار ولافتات تقارب ودعايات تواصل، أنْ نعدّ إعداداً جيّداً ومنهجيّاً وموضوعيّاً لبرنامج نسمّيه اسماً يجمعنا مع غيرنا ويربطنا بمجاورينا وشركائنا وأصدقائنا.

وليكُن في معلوم كلّ الناس بأن الأمل ليس في حوار الأديان ولا صراع الأديان ولا سكوت الأديان، ولكنّ الأمل في النّهج القويم الذي شرّعه أبونا وأبوهم "إبراهيم عليه السلام"، وملّته هي القاسم المشترك بين كل من هو موجود على ظهر هذه البسيطة ممَن لديه بقية من دين سماوي، فلا دين ربّاني الأصل موجود اليوم إلا وهو من إرث هذا الشيخ النبيّ العظيم أبو الأنبياء والرّسل جميعاً، ولو عادَ الكلّ لتحكيم ملّته في مسائل الاختلاف لرضي الجميع بأن تكون جملة "لكُمْ دينُكُمْ ولِيَ دِينٌ" هي القاعدة المشتركة، ولاطْمَأَنّ كلّ المشكّكين بأنّ الحقّ هو ما قاله الله تعالى "مَا كانَ إبراهيمُ يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكنْ كانَ حنيفاً مسلماً وما كانَ من المشركين" من خلال قراءة التاريخ المتاح للجميع دون إقصاء أو حَجْب ..

واقتراحي في هذا المجال، بدَلَ أن نرفع شعارات حوار ولافتات تقارب ودعايات تواصل، أنْ نعدّ إعداداً جيّداً ومنهجيّاً وموضوعيّاً لبرنامج نسمّيه اسماً يجمعنا مع غيرنا ويربطنا بمجاورينا وشركائنا وأصدقائنا، يرضونَه ونَرضَاه، هو أصلُنا وهو أصلُهم، ونسعى لإنشاء مركز عالميّ بكل اللغات وكلّ الكوادر التي تعنى بالديانات في كلّ دول العالم ونسمّيه باسم هذا البرنامج، الذي لن يجد اسماً ولا عنواناً ولا دليلاً أجمل ولا أجمع ولا أوضح ولا أشمل من "مركز مِلّة إبراهِيم العلمي" ليكون مقرّه القدس أو القاهرة أو بغداد أو مكة..

خاصّة وقد تنافس الغرب والشرق والمسلمون والمسيحيّون واليهود وغيرهم في إنتاج أعمال دراميّة مختلفة الطرق والتّناولات، معتمدين على ما لديهم من موروث تاريخيّ عن سيرة هذا النبي الكريم مستشعرين قيمته الروحية والمرجعية في أنّه الأصل والمنشأ فلماذا إذاً لا نجعله مرجعاً أكاديميّاً ودينيّاً ومحكمة تاريخيّة عادلة لكل قضايانا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.