شعار قسم مدونات

حق نسيان العودة وفنتازيا الشباب الفلسطيني

blogs - palestine
وصل بنا التعقيد كفلسطينيين إلى ما وراء ما يمكن أن نتصوّره، وحلت الغزارة الفوضوية كبعد فيزيائي مُتشارك بعلاقة طردية مع غزارة الحلول وسبل المواجهة الوهمية، حتى انخفض مستوى النخبة المثقفة، أي بالأحرى أنهم فقدوا حيويتهم الاستكشافية ورؤيتهم الريادية للسياسة والتي كانت مصدر الرشادة الصحيحة لمنطقية التحرر تجاه روايتنا التاريخية؛ كي نعود للديار!

كفكرة في غير أوانها تُسرد في طياتها بعضاً من الحبكة الفنتازية، ولكن بصورة لم نتصورها قط ستتحول هذه الفنتازيا إلى حقيقة تشكل الصدمة التقدمية التي لم نستشعر بها أبداً.

فالعوامل المُهيمنة في هذا المقال تبدأ بالشباب الفلسطيني، من مستوى انخراطهم بمعطيات المجتمع الفلسطيني إلى تصادمهم بالهوية الفلسطينية إلى إقامة علاقة مع معطياتهم الاجتماعية والسياسية إلى علاقة التضاد ونتاج المراحل المؤلمة.
 

ما مدى سيسيولوجيا الشباب الفلسطيني تجاه السياسة والهوية الفلسطينية؟
بدايةً ومن أجل التوضيح ، أكثر فئة مهمشة هي فئة الشباب كوناً أنها لا تؤثر ولا تلعب دوراً في السياسة ولا حتى في معضلاتها، ولكن صنعت أفكار جمالية انتجت تجمعات تهدف إلى وضع حدٍ وتقديرُ موقفٍ لا بد من إنهائه والدعوة إلى الخلاص التنظيمي، ولكنها لم تستطع مساومة قراراً واحداً، حتى وأنه قد تم انتهاك حقهم في التعبير.
 

أصبح العدو الأول المُبطّن لمعظم الشباب الفلسطيني هو فلسطين نفسها، فسبيل الحل لهم هو نزع الترابط الروحاني والعاطفي لحل القضية ولو بتعليق على صفحات التواصل الاجتماعي، فكل شيء أصبح سيكولوجية تكليفية للحث على الدفاع عن موضوع ضاع قيمته أصلاً.

الكل الفلسطيني يتميز بمشاركة هوية وطنية جامعةٍ وهي عبارة عن الرواية التاريخية من تطهير عرقي وتشريد وتقسيم الفلسطينيين، ولكن حسب المتغير المستقل الحقيقي لبنية السيسيولوجيا لدى الشباب ومعطيات خصوصيتهم الفكرية أنه من الأفضل عدم الاهتمام لقصص "النكبة" وأنه من الأفضل نيسان حق العودة؛ لأن العزلة قادتهم من دمار فكري إلى تطور إيدلوجي مفصوم عن الهوية الفلسطينية وأنهم اكتفوا بمراقبة معبر رفح وحركة السفر والهروب إلى أوروبا وبقى النتاج الفعلي للحياة معُلق عند السفر والهروب من هذا الواقع المخيف وأن هناك حياة بانتظارهم.
 

المستوى الثقافي والفلسفي أصبح محدوداً وبشدة لديهم، كوناً بأن مشاركتهم فقط كانت بالتصويت في بالانتخابات، لا بمشاركة بالشأن العام ولا حتى بمبادرات لحل مؤقت، وهذا المعطى شكل لهم عُـــزلـــة أخرى نتيجة كثرة المشاحنات في المجتمع السائد بحال الفوضى، وكله يصنع نتيجة أسرع مما نتخيل وهي عدم ثقتهم بأنفسهم في استنهاض همهم من أجل خدمة الوطن وتوارث الهوية الوطنية. صحيح أن لدى الفلسطينيين أحزاب لا تعد ولا تُحصى ولكن لدى الشباب الفلسطيني تجمعات شبابية أيضاً لا تُعد ولا تحصى، ولكن هذه التجمعات عانت وبشكل مؤلم من القهر حتى أصبحت مُضّجرةٌ بأنه لا مشاركة سياسية ولا اجتماعية ولا اقتصادية وأنهم يدركون بتخلفهم الذي يزداد لحظةً وراء لحظة. والجدير بالذكر هنا هي نقطة مهمة ألا وهي مسألة استهلاك طاقات الشباب مقابل العدمية الحتمية المتكونة من عملية الركض وراء الأوهام وإضاعة الوقت لإيجاد فرصة لإبهار مجتمعهم والقائمين عليه. ولكن عند نهاية المطاف يدرك الشباب أنه لا عمل لإيجاد سبل الحياة و لا برهان لإثبات الوجود، لدرجة أنهم أصابوا بمزاجية الايمانيات المختلفة (فأصبح معتقدهم أن لا وجود لكلمة الله الأولى "الاستخلاف" ولا لتوصياته لتهيئة الأرض بالنهوض مجدداً فكيف سنحرر الأقصى ونعود إلى الديار؟).
 

مدى درجة التطوع للوهمية عند الشباب الفلسطيني؟
أكثر ما يدفع الشباب اليوم هو التطوع لدى مؤسسات غير حكومية ومؤسسات المجتمع المدني، على صعيد الدورات تدريبية وتنفيذ المبادرات التي تحمل معاني الإنسانية وتخفف عن بعضٍ من إخوانهم، ولكنهم تعاطوا مع المسألة كأنها مؤقتة وليست بالجديرة، فاستكفوا بالاستمتاع بالتعارف على بعضهم وتشاركهم بمعرفة الفساد الذين يرونه. والأجمل هنا هي ممارسة السذاجة المبنية على رواية ما زلت أسمعها تكراراً ومراراً:

ما رأيك بالتطوع لدى المؤسسة (س)؟
انا عارف، منيحة.. بس..
بس شو؟ احكيلي؟
لالا روح واتعلم وشوف.
 

حدة الإجابة التي يتملّكها الشخص الذي عاش الحدث بمرارته جعلته يشعر بالقهر، ولكنّه أدرك أنه لابد من أن يجعل صديقه يشعر بالألم ويرى سيناريو الحياة الموروث ويحثه على الانغماس في تقنيات التطوع لكي تتصاعد عفويته ويشكل وحدة انشطار وهدم للشباب الواحد. فمرحلة الصدمة التي مرت على الشخص الذي عاش التطوع لم تنمي لديه أي تغدية، كوناً أنه أصاب بمرحلة تكتيكية والتي هي ما بعد الصدمة تُرجعه إلى اكتساب الحياة البائسة مرة أخرى، وعدم الذهاب مرة أخرى إلى أيَ من هذه التفاهات. في هذه الحالة تم بناء ثقافة مصورة بهوية تحمل خيبات الأمل، وأن التجربة في التطوع لدى كل شاب، تحمل خصوصيات تجربة متشظية لنتاجات الحياة السيئة. وأنه عليه العيش في سياقات تمتاز بالتخلف لكي يكون استثنائياً حسبما يتخيّل.
 

انحصار القهر لدى الشباب وترك الوطن؟
هناك رابطة فكرية تطبيقية أصبحت تشكل الشباب الفلسطيني، ألا وهي المصير المصور بأخذ الأمتعة والولوج إلى الخارج لكي أجد عالماً يقدّر ما فعلت من تجارب جعلتني منكوباً. لكن هل كل هذا القهر سيجعلهم يتركون الوطن ؟! نتاج هذه المرحلة هي ازدواجية العزلة السياسية ونسيان حق العودة وتشتت الطاقات وزيادة معطيات القوة الصهيونية بشتى أبعادها.
 

صحيح أن هناك شبابٌ قاموا بالدفاع عن حقهم في الحياة وخير مثال هو الخروج بمظاهرات تندد بقطع الكهرباء المتعمد لأسباب تقوّي تياراتٍ سياسية ما، ولكن سرعان ما تم نزع الاعتبار منهم، ولم يسجلوا نقطة تاريخية صارمة بسبب مزاجية السياسات العامة القائمة عليها الأحزاب التي لا تنتمي لترابط معطيات الهوية الفلسطينية.
 

من الأفضل عدم الاهتمام لقصص "النكبة" وإنه من الأفضل نيسان حق العودة؛ لأن العزلة قادت الشباب من دمار فكري إلى تطور إيدلوجي مفصوم عن الهوية الفلسطينية وأنهم اكتفوا بمراقبة معبر رفح وحركة السفر والهروب إلى أوروبا.

وأصبح العدو الأول المُبطّن لمعظم الشباب الفلسطيني هو فلسطين نفسها، فسبيل الحل لهم هو نزع الترابط الروحاني والعاطفي لحل القضية ولو بتعليق على صفحات التواصل الاجتماعي، فكل شيء أصبح سيكولوجية تكليفية للحث على الدفاع عن موضوع ضاع قيمته أصلاً، كما أن الاستياء الجميل أصبح يريحه وأنه يجب التمتع بالشكوى وارتباط نتيجة الوعي الفوضوي يجعله مدركاً بأن هناك نشوة صغيرة للسلطة وأنه يحمل مقدار قليل من الانتقام، ولكن ما من هدف حركي ممزوج بالقيم الفلسطينية الوطنية.
 

الرهان الأخير:
صحيح أن هناك هبّة قامت، ولكن كانت لحظية، وصحيح أن هناك مثابرة شبابية قوية ولكنها أيضاً لحظية، لأن المسألة التحررية باتت في الخيالات متناقضة، وأن العيش في الواقع الفلسطيني يشكل لهم أفكاراً بائسة لا محل لها سواء الهرب، لا المعالجة.
 

هذا المقال لا يفترض بمدى التشاؤمية التي يجب أن نعي بها، فهناك مقاومة فردية إيجابية ولكنها شكلت واجساً من الانقلاب التقليدي المزيف، أي أنها لا تشمل صياغة التحرير، كما أنها سجلت حالة غموض لدى التيارات السياسية وعدم وضوح في ظل التناقضات، فالهدف لديهم أن فلان قد استشهد لأجل حزبٍ ما. 

الهوية الفلسطينية الوطنية التي تجمع الكل الفلسطيني سوف تتسلل إلى الخفاء، لأن موضوع الشباب أصبح موضوعاً صامتاً. والاَن نحن بحاجة إلى الفهم الجديد والمغاير لوجهات النظر لدى الشباب ومشاركتهم في مناقشات السياسات الوطنية كحق وواجب، وتجديد الوعي وإخراطهم في التفكير الاستراتيجي تجاه القضايا لبناء ثقافة تستطيع أن تصنع مقاومة مضادة لحركات الصهيونية والاستيطانية الموجودة، وخلق قيم التسامح والتصالح بينهم، ليتم صناعة سائد جديد في هذا التفكك السياسي الحاصل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.