شعار قسم مدونات

كافكا.. الوجه الآخر للحُب

blogs - كافكا
بداية يحتم على القارئ الجيد في حال ذكر الزمان أو الحالة النفسية أو المرضية في كتابات قصص كافكا أو أي كاتب آخر؛ أن يربط حالته تلك بمحتوى القصة، وهنا تتجلى لنا ثمانية أقاصيص معظمها كتبت في آخر أيام كافكا ذا القلب الطيب في المستشفى بين 1923 -1924، حيث أصيب بمرض السل مع تدهور كبير في حالته الصحية ومكوثه في المستشفى.

ليس من السهل فهم كتابات كافكا عملاق السوداوية والاكتئاب، قصص كافكا ذات أبعاد فلسفية عميقة غامضة أشد الغموض، هذا المجلد رهيب للغاية بأقاصيصه المتنوعة منها الساخرة والكئيبة واللاذعة في حزنها، ومنها أيضا التي تحتوي على نقد ممتاز للغاية رغم حساسية المواضيع المطروحة، إلا أن كافكا بانتقائه شخوصا حيوانية كالكلاب والفئران والقردة، يسهل على نفسه التوغل في بحور النقد دون قيود، متناسيا الرأسمالية القوة المهيمنة على المجتمع في زمانه!

“إن الحدود التي تطوق قدراتي الذهنية ضيقة للغاية. في حين أن الفضاء الذي يجب أن أتجاوزه لا نهاية له” هذا الاقتباس من أول قصة سور الصين العظيم، وأنا على الأغلب لن أستطيع فهمك بالقدر المطلوب مني، وبذلك أشعر بالهوة تخترقني بين أن أحبك ككاتبي المفضل عندي وبين عجزي عن فهمك!

لنقرأ لكافكا بقلوبنا أولا كي نصل إلى فهمه، لنلتمس حسه البالغ الذروة، لنعقد معه معاهدة سلام لننصر كتاباته التي ذاقت من العتمة ما ذاقت. هذا الرائع الجميل المبدع ذهب في طيات النسيان لربع قرن! لم يذكره بشري قط، وكأنه لم يكن مضت 120 سنة من فقد كافكا، ومع ذلك ما زالت هناك أقلية تسعى لفهمه بطريقة بسيطة صحيحة صادقة! القصص كالتالي حسب أهميتها و قيمتها عندي:

أقام كافكا في إحدى المصحات العلاجية في مدينة مورانو عندر تدهور حالته الصحية، وكتب كافكا في قصة هو وجعه الدائم النفسي جراء مكوثه في مجتمع ظالم وأب أشد ظلما.

– العرين: كم هي مؤلمة هذه القصة العرين، هو ملجأ للحيوانات التي تسكن تحت الأرض خوفا من بني البشر، تبني عرينها بجد وإخلاص وتفان خوفا من مداهمة العدو، لكن أن يكتب كافكا عن نفسه هذه القصة التي تروي لنا مدى عمق الاضطراب النفسي الذي يعاني منه حد أنه يقول ”تبدو لي العقوبة المتمثلة في مغادرة العرين لفترة طويلة قاسية إلى حد كبير”… بكيت كثيرا في العرين، بكيت كافكا المسكين الكئيب، والذي لا ذنب له في ذلك، إنه لا يفتعل ذلك، إن السوداوية هي المسلطة عليه هو بريء وسط هذا الكم الهائل من العذاب، لا يمكن أن يفتعل أحد العذاب لنفسه.. يجب أن نفهم كافكا، وأن نكف عن قول أن ما يكتبه ليس إلا هراء!

– تحريات كلب: من أطول القصص في هذا المجلد، هي سيرة ذاتية ذات أبعاد فلسفية يتناول هنا كافكا شريحة من الفنانين التي بلغت من العجز ما بلغت في التأثير في النخبة المثقفة والرابط الأساسي هنا بذاته هو اهتمامه وموهبته المتميزة في المسرح، فيأخذ هنا على عاتقه في بدأ تحرياته كجرو صغير لا طالع له وسط جمع من الكلاب المبتذلة الفاشلة.

– سور الصين العظيم: يروي لنا كافكا عن حيثيات بناء السور العظيم وإمكاناته في حماية المجتمع المدني من العدو، كما يصف لنا كافكا بأسلوب ساخر مدى تفاقم الهوة العميقة بين القيصر وشعبه وإرضاخهم على العمل الشاق المسلط عليهم رهبة وخوفا من القادة.

– تقرير إلى الأكاديمية: حسب منظوري الشخصي؛ أجد كافكا يروي لنا معاملة أبيه الساحقة له باجتياز مع وصف نفسه بالقرد والتعمق في أساليب التعذيب على جسده.

كتابات كافكا لا يستطيع أي كان تحمل العبيثية والسوادوية والاكتئاب الملحق الرهيب التي فيها، وليس بالأمر الهين أن تواصل في التوغل في كتاباته.

– هو: (مذكرات من عام 1920) وهو العام الذي أقام فيه بإحدى المصحات العلاجية في مدينة مورانو لتدهور حالته الصحية، يكتب هنا كافكا وجعه الدائم النفسي جراء مكوثه في مجتمع ظالم وأب أشد ظلما.

– الزوجان: قصة ذات أبعاد فلسفية غامضة من الصعب فهمها، لكن حسب رأيي من خلال ربط زمن كتابة القصة، وصورة الغلاف، أجد هنا كافكا يكره عطف الآخرين عليه، متظاهرا بذلك باللامبالاة والقوة رغم وهنه الجسدي.

– فنان الجوع ووطن الفئران: (المغنية يوسفينا) كتبت هاتان القصتان إثر مكوث كافكا في المشفى، وهنا يتجلى لنا تعبه البارز كبروز الشمس في وضح النهار، حيث إنه في فنان الجوع يمقت أي اتصال بشري به ولو كان عطفا أو خوفا عليه، وفي القصة الثانية نجد كافكا ينقد الغناء المبتذل الرخيص من خلال الفنانة يوسفينا، واصفا غناءها بالصراخ السقيم مع جمع من الجمهور الخيّر الذي لا يفقه الغناء الحقيقي، متفانيا في صون الأمانة العارية التي تغامر بوجودها على الركح في سبيل حماية الوطن، وحماية الشعب عامة من المآزق الاقتصادية والإفلاس، كما أن هذا الغناء يمنح القوة للشعب على تحمل أشد الكوارث، حيث تصل السخرية بكافكا من هذا الصراخ إلى هذا الوصف اللاذع “هذا الصوت التافه وهذا الأداء التافه يحرز نجاحا ويرشدنا إلى الطريق”.

أخيرا مازلت أزحف وسط كتابات كافكا ببطء وترو؛ علني أحظى بالفهم اللازم رغم أنه من الصعب فهمه حقيقة. كتابات كافكا لا يستطيع أيا كان أن يتحمل العبيثية والسوادوية والاكتئاب الملحق الرهيب التي فيها، وليس بالأمر الهين أن تواصل في التوغل في كتاباته، فمع كل مجلد رغم قلتها سوف تشعر بالفرق، فروحك تتآكل دون علمك، فلا أنت تستطيع الرجوع إلى الوراء ولا أنت تقدر على التقدم الذي سيجزُ بك في فوهة العذاب النفسي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.