الأشهر الأولى من اكتشاف اضطراب التوحد لدى ابني جايسن كانت مضنية حقاً، كل ذلك العالم الجميل المنمّق الذي اعتدته سابقاً انهار فجأة. ظاهرياً لم يختلف شيء، تابع والد جايسن عمله بهمّة وإبداع وشجعني على الانغماس في عملي كالسابق، لكن شيئاً لم يعد كالسابق في حقيقة الأمر. كنت مهمومة وشاردة الذهن معظم الأوقات، لم أكن قد قررت التحدث عن اضطراب التوحد لدى جايسن مع أي أحد من الأقارب أو الأصدقاء. لم أكن واثقة كيف سأخبرهم عن المحنة التي أصابت عائلتنا، لم أكن مجهزة بالمعرفة بعد، كنت أعلم أنه سيكون هناك الكثير من الأسئلة التي لن أجيد الإجابة عليها.
كان جايسن لا يزال صغيراً، في السنتين من عمره، وكان صعباً على العين غير المدربة أن تنتبه إلى العوارض التي تشير إلى حالته. أذكر أنني بدأت في تلك الفترة بقراءة المقالات العلمية عن التوحد، ما هو؟ لماذا يحدث؟ هل كان خطئي أثناء الحمل؟ هل هو خطأ جيناتي وجينات أبيه؟ كنت أريد أن أفهم السبب لأبحث عن حلّ، لكن لم يكن هناك سبب بل تكهنات بالأسباب تناقض بعضها. من جهة أخرى جنّد والد جايسن علاقاته في البحث الطبي والبيولوجي للتواصل مع خبراء الخلايا الدماغية واستشار أعداداً كبيرة من أصدقائه الأطباء حول التوحد. كنا نجلس بعد العشاء لنتحدث عن نتيجة أبحاثنا، كنا نفرغ أمام بعض آخر ما توصلّنا إليه من معلومات وكانت كلها تصب في خانة تأكيد أنه لا شفاء من حالة جايسن.
أجّلت الإنجاب بعد زواجي لأكثر من أربع سنوات، كنت خلالها أعيش في باريس ووالد جايسن في بريطانيا وكلانا منهمك في بناء حياة مهنية ناجحة. كنا سعيدين ولم نهتم يوماً لملاحظات الأهل حول طريقة حياتنا وزواجنا، لكني في السنة الأخيرة من حياتي في باريس بدأت فجأة ألاحظ تدوّر بطون النساء من حولي، معظم صديقاتي أنجبن ولداً واثنين، بدأت أشعر أني أحتاج أن يكون لي ولد، تخيّلت مراراً كيف سيكون شكله وبدأت أشعر بالغيرة كلما قالت لي والدتي على الهاتف أن إحدى قريباتي حامل، وكانت تصرّ على استفزازي ودافعت عن فعلها بالقول "لو من الغيرة ما حبلت الأميرة". وفعلاً هذا ما حصل، تركت عملي في باريس وانتقلت إلى بريطانيا وجاء جايسن استجابة للهفة وحب كبيرين وكنت أسعد الأمهات.
كلما تذكرت طفولة جايسن الأولى يغمرني صفاء لا مثيل له، كنت مشتاقة له وسعيدة به ومنغمسة بهذا العالم السحري للأمومة ومأخوذة بالدلال الذي تلاه من والد جايسن وعائلتي وأصدقائي والجيران، كان شيئاً لا يوصف وكل يوم يحمل متعة وبهجة مختلفة وأتقنت دور الأم وأحببته، لكن ذلك تبعه هبوط حاد منذ اكتشاف حالة ابني، أصبحت كئيبة حدّ الاضمحلال وأصيبت يداي بوهن بتّ معه أكاد لا أستطيع أن أرفع جايسن بين يدي. وبدأت أكذب، بدأت أكذب على والد ابني وعلى أهلي وعلى أصدقائي. لم أكن بخير ولم يكن ابني بخير ولم أكن زوجة سعيدة ولم أكن أماً منتشية، مرّت عليّ لحظات أردت لجايسن أن يختفي، أن يكون كل ذلك حلماً مزعجاً أستيقظ بعده في باريس بلا زواج ولا إنجاب، أردت الهرب.
هذه السيدة اتخذت قراراً واعياً إرادياً بتبني طفلين من ذوي الاحتياجات الخاصة وأنا أكاد لا أستوعب ما أعطاني إياه الله وهو نزهة قياساً بما رأيت في هذا اللقاء |
في تلك الفترة الصعبة، كنّا قد بدأنا إجراءات إدراج جايسن في التعليم الخاص لذوي الصعوبات في التعلّم، وكانت السيدات القائمات على قسم ذوي الاحتياجات الخاصة في منطقة سكننا في بريطانيا يتحلّين بالخبرة العميقة وبإنسانية لن أنساها ما حييت. ذات مرّة لاحظت إحداهن أني لست على ما يرام وأني تغيّرت منذ لقاءاتنا الأولى حين كنت أجلس معهن لاكتساب المهارات المناسبة للاهتمام بجايسن، فسألتني إن كنت أقبل دعوتها للقاء شهري يجمع أمهات الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة الذي تشرف عليه، ووافقت.
في اليوم الموعود توجهت مع جايسن إلى مكان اللقاء، كان جايسن جميلاً في لباسه وكان يمشي أمامي باسماً يردد أصوات طفولية لطيفة، لحقت به ودخلت القاعة مكان اللقاء. بدأ نظري بالتأقلم مع ضوء القاعة الخافت نسبياً ثم بدأت أجول بحثاً عن السيدة التي دعتني. مررت على الوجوه واحدة واحدة، كان هناك سيدات شقراوات وآسيويات، فجأة انخفض نظري صوب الأطفال الذين برفقتهن، وقع نظري على طفل يبدو في السابعة من عمره مسمّراً على كرسيه المتحرك ويد والدته تمسح لعابه السائل من زاوية فمه المنفرج، أدرت نظري سريعاً فوقع على كرسي متحرك آخر وطفلة لم أستطع تقدير عمرها مع جيب بلاستيكي فيه سائل يتدلى من جنبها، اجتاحتني برودة مفاجئة كأني سقطت في عالم موازي. لم أستفق إلا على صوت "ليزا" المشرفة على اللقاء تناديني باسمي ويدها تهزني برفق ثم دعتني إلى مقعدي وجلس جايسن أمامي أرضاً.
كنا حوالي 15 امرأة وجلسنا في شكل دائري، بدأت كل سيدة تقول اسمها واسم ولدها ونوع الاحتياجات الخاصة التي يعاني منها، لم أعد أذكر أغلب ما قيل وقتها ولكني أذكر تماما إحدى السيدات وكانت إنكليزية، تحدثت عن ولديها التوأم المصابين باضطراب التوحد. بدت السيدات معتادات على اللقاء كل شهر فعندما تبدأ إحداهن بالحديث عن إنجاز أو انتصار صغير يبدأن جميعاً بالتصفيق بينما يواكبن أخبار الانتكاسات بآهة جماعية تتلوها كلمات التشجيع، أما أنا فلم أكن مهتمة إلا بفرصة لأكلم أم التوأم المصاب بالتوحد.
بعد انتهاء الجلسة توجّهت مع الأمهات صوب بوفيه صغير واقتربت من والدة التوأم وعرفت عن نفسي وعن جايسن. أخبرتني أن ولديها يعانيان من توحد حاد واضطرابات بالجهاز الهضمي وأنهما يتقدمان أحياناً وينتكسان أحيانا أخرى، ثم بدأت تخبرني عن النشاطات المتاحة لأطفال التوحد. فيما كانت تتكلم بدأت من غير قصد أنتبه إلى وجهها بتكاوينه التي تشرق وتخفت مع الحديث ثم سألتها السؤال الذي يتعبني: هل تظنين أنه حصل لنا شيء خلال الحمل قد يدفع للاعتقاد أننا كنا السبب في إصابة أطفالنا بالتوحد؟ جاءني جوابها صاعقاً، قالت: "لا أدري، لقد تبنّيت الطفلين بعد تشخيصهما باضطراب التوحد ولست أمهما البيولوجية، أولادي الباقين لا يعانون من شيء."
ماذا؟! ماذا سمعت للتوّ؟ قلت في نفسي، هذه السيدة اتخذت قراراً واعياً إرادياً بتبني طفلين من ذوي الاحتياجات الخاصة وأنا أكاد لا أستوعب ما أعطاني إياه الله وهو نزهة قياساً بما رأيت في هذا اللقاء. يا للخجل، يا للجبن، يا للرخاوة والمراهقة التي كنت حتى الآن أواجه فيها ما حلّ بابني.
ذلك اللقاء كان الأول والأخير، حزمت أمري وعدت لإنسانيتي أستفتيها، ولعقلي أسترشده كيف نخرج سالمين من هذه المعركة؟
وللقصة بقية تأتي..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.