(نحن نفضِّل أن ننهار على أن نتغير).
و. هـ. أودين.
(لكي تصل إلى ما تصبو إليه = يجب أن تخترق الطريق التي لم تسلك فيها بعد).
تي إليوت.
(1)
كتبتُ كثيرًا عن أهمية النقد، وبعض إجراءاته وأهم شروطه، وكذلك مارست التطبيق النقدي كثيرًا. ولكن من المهم أيضًا أن نعود بالكلام عن النقد نفسه من الناحية النظرية، عن جدواه، وعن أهم ميكانيزمات مقاومته غير الموضوعية.
لا شك في أهمية النظرية النقدية كعامل أساس لنهضة الأمم، وهذا أمر عام شرقًا وغربًا، لا تنهض الأمم من ركودها الفكري والحضاري إلا بنزعة نقدية قوية، تشعر بالتخلف وتصرخ عليه، وتنادي بالإصلاح، ثم تنشأ الحركات الإصلاحية بناء على ذلك.
هذا أمر عام في الشرق والغرب. بصورة أو بأخرى يمكن أن نرى جميع الحركات الإصلاحية الدينية والسياسية في التاريخ الإسلامي، على المستوى الفقهي بجميع مجالاته، والسلوكي، والسلطوي: بدأت بنقد المشروع السائد الذي يثبت فشله أو فساده نظريًّا وتطبيقيًّا. يمكن أن نقرأ ذلك حتى في صيحات الحسين، وزيد، وابن النفس الزكية، والشافعي، وأحمد، والأشعري، وابن حزم، والغزالي، وصلاح الدين، وابن تيمية، وابن عبد الوهاب، والأفغاني، وغيرهم الكثير، كيف كانت في مضمونها مشروعًا نقديًّا عميقًا، تَوَجَّه بالنقد للسياقات السائدة بمستويات متباينة، وعلى أساس ذلك قدمت مشروعها الإصلاحي.
وكيف كانت الفلسفة التي أنتجت الحداثة في أوروبا وانتشلتها من ظلام العصور الوسطى هي محاولات عصر النهضة الجائحة، والتي بلغت نضجها الأرشد في طور الفلسفة النقدية، كانط فما بعده، حتى الحداثة حين أرادت أن تجري مراجعاتها احتاجت للنظرية النقدية مرة أخرى عند هوركايمر وجماعته مثلا. ومازال الفكر الغربي نفسه، والذي يعتبر في نظر كثير من المنبهرين قمةَ ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية؛ مازال مأزومًا بنقد نفسه ومراجعة مبادئه، بصورة عدمية وهدمية أحيانًا. بل إن المتدبر يعلم أن عامة النقد المعرفي والفلسفي للحضارة الغربية المتداول بين الثقافويين العرب هو نقد غربي الروح مستفاد من المدونة الغربية النقدية لنفسها، لا أصالة فيه ولا تأمل حقيقيين.
ثمة أمور سياقية كثيرة يدفع بها في وجه النقد. ومعنى وصفها بالسياقية أنها لا تتعرض لمضمون النقد نفسه وصحته وصحة إجراءاته من عدمها |
فالمقصود أن النقد والمراجعة المستمرة: أمر ضروري وصحِّي للأمم والحضارات. بل هو أمر سَيروريّ يدلُّ على حياة الأمم أو موتها. وبمعدل انخفاض البحث النقدي في الأمم يكون فسادها وتخلفها. فانظر مثلا في القرون الأربعة الأخيرة، ما قبل الإصلاحية العربية أول القرن العشرين إلى النَّفَس النقدي في الوسط الشرعي أو الثقافي أو السياسي العام، لتفهم كيف وَهَدَتْ تلك الأمةُ في التخلف والجهل.
وكما ذكرنا من قبل: المشاريع النهضوية الكبرى في الإسلام كانت نقدية، كما في مشروع ابن تيمية مثلا. المكون النقدي الهدمي عند ابن تيمية أضعاف البنائي، وباعترافه.
(2)
ثمة أمور سياقية كثيرة يدفع بها في وجه النقد. ومعنى وصفها بالسياقية أنها لا تتعرض لمضمون النقد نفسه وصحته وصحة إجراءاته من عدمها. وذلك كاشتراك مماثلة الناقد للمنقود في العلم أو الفضل أو كليهما، وقد بينّا بُطلان ذلك في مقالات سابقة، كمقال (خطاب التنصل)، وأن النقد لا يستلزم في صحته شيئًا من ذلك.
وقد يعتبر النقدُ – سياقيًّا أيضا – شيئا سلبيًّا لأنه يؤدي إلى اهتزاز المرجعيةـ، أو إهدار الجهد والفضل. وهذا أيضا فاسدٌ كسابقه. فإن النقد المطلوب ينبغي أن يكون ملتزمًا بآدابه والتي أجلها العدل، ومع العدل لا خوف من البغي، ولو وقع فهو عرَض سلبي جانبي، لا يمكن لأجله أن نمنع من المصلحة العامة في النقد، بل يقوّم النقد ويُقبل ما به من حق ولا ُيمنع من أصله لذريعة كتلك، إذا وازنَّا بين المفسدتين. أما النقد الذي يهدر المنزلة ويطمس العذر، ويبغي ويظلم، فليس هذا النقد مطلوبًا، والأهم أنه ليس مطلوبًا من كل حد، من غيرنا، ومنَّا أيضا.
نعم جاء في الحديث: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، وهذا المضمون حق، فالهفوة من الفاضل تغتفر، والعثرة تقال، ولكن هذا لا يمنع من كشفها، وبخاصة إذا استشرى فسادها فأصبح منهجًا ومشرعًا وعثرة كؤودًا أمام الإصلاح، وزلة العالِم – والمُصلِح عمومًا – قد استفاض تحذير السلف منها لأنه يزِلُّ بها عالَمٌ. وهي مع التحذير منها وكشفها لا تستلزم هدر مكانته أو عدم التماس العذر له، فثمة انفكاك واضح بين العذر الشخصي والتخطئة الموضوعية، وحتى إقالة العثرات استُثني منها (إلا الحدود)، فهذا معناه أن ثمة ما يغتفر في عقوبة الأخطاء، على أنه قد تقرر في الشريعة أن مجرد العقوبة – إذا بلغ الخطأُ العقوبةَ – لا تستلزم الفساد في الباطن، فقد يكون صاحبها صالحًا عدلًا معذورًا. فالنقد بالعلم والعدل لا ينافي هذه القيمة ولا يستلزم إهدار المنزلة.
إن الأخطاء التي تقع من أصحابها أهل العلم والعدالة، لا يستلزم وقوعها منهم أن يكون كل من يتبعهم فيها بنفس منزلتهم من العلم والعدالة، ومن هنا ينشأ الفساد العظيم |
ثم إن ذلك المبدأ يُستعمل بصورة هوائية حزبية، فتستعمله كل طائفة في مُعَظَّمِيها، وتقصره عن مُعَظِّمي غيرها، وإلا فكل جماعة لها ذوو هيئات، فلم لا يُلْتَزم ذلك المبدأُ مع الجميع؟ فيُلتزم العلمُ والعدل في نقد كل أحد، من طائفته وغيرها، وتوُكَلُ القصودُ والنيات إلى الله، فهل المقصود الحسنة مخصوصة بجماعتنا ومعظمينا فحسب؟
وأمر آخر. إن الأخطاء التي تقع من أصحابها أهل العلم والعدالة، لا يستلزم وقوعها منهم أن يكون كل من يتبعهم فيها بنفس منزلتهم من العلم والعدالة، ومن هنا ينشأ الفساد العظيم. فكَوْنُ الأولين معذورين فيها لا يستلزمُ إِعْذارَ المتبعين لهم المتحزبين لهم بالجهل والعصبية. وهذا ما يعظّم فائدة نقد أخطاء المعظمين ولو كانوا في أنفسهم معذورين.
يشير الإمام ابن رجب الحنبلي إلى هذه الملاحظة العالية في قوله: (هاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له :وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحًا، ويكون مجتهدا فيه، مأجورا على اجتهاده فيه، موضوعا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث إنه لو قاله غيره من أئمة الدين، لما قبله، ولا انتصر له، ولا والى من وافقه، ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق، وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه، وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق .فافهم هذا، فإنه فهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(.
(3)
وأما أهم الدفاعيات المقدَّمة ضدَّ المشروع النقدي دائمًا، سواء أكان ثقافيا – شرعيًّا – أو سياسيًّا، فهو سؤال: ما البديل؟
مجرد السؤال عن طرح بديل: سؤال مشروع بل مطلوب. ولكن موضع المخاتلة والاحتيال في ذلك السؤال حين ينقلب من كونه سؤالا طموحًا قلقًا رائده الإصلاح واستشعار الفساد الحالّ: أن ينقلب إلى ميكانيزم دفاعي بغرض منع النقد من بابه. فإن سؤال: ما البديل، تكون ترجمته الواقعية في غرض السائل المنتقد: ما دمت لا تملك بديلا أو بديلا كاملا: فليس لك مشروعية النقد.
أما المنظور الموضوعي، الذي لا يستهدف الدفاع كغاية: فينظر إلى النقد بالمعيار الموضوعي الداخلي فحسب، وهو كونه قائمًا على كفاية علمية، مع العدل والعقل. وكونه ينتقد ما هو فاسد حقًّا، بقطع النظر عن أية إضافات تكميلية مطلوبة، لأنها ببساطة ليست من جوهر النقد. وقد تكلمنا أكثر من مرة عن شروط النقد المجزئة، والزيادات التي يشترطها بعض من يرفضون النقد كذرائع للتملص منه.
نعم قد يتدخل أمر سياقي يتعلق بسؤال البديل، وهو كون مشروعٍ ما مع فساده، قد يستلزم زوالُه فسادًا أعظم منه. وهذا يتفكك بالنظر في شيئين. الأول: أن إقرار ذلك الاعوجاج بالسكوت عنه خشية ترتب مفسدة أعظم، كما يقرر ابن تيمية في تنظير له معروف؛ لا يتضمن تصحيح الخطأ أو تخطئة الصحيح، بل ليس فيه إلا مجرد السكوت، لا الكلام بالباطل، فضلا عن الإنكار على من يتكلم بالحق. والثاني: أن السكوت المطلق عن الأخطاء خوفًا من البديل الأكثر فسادًا يستلزم ضياع قيم الأقوال ومراتب الصواب من الخطأ، حتى يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفًا، وهذا فساد أعظم. فمجرد الإبقاء على ما فيه فسادٌ دفعًا لما هو أفسد منه؛ ينبغي أن يترافق مع الكشف النظري على الأقل لمواضع الخلل، فإن هذا من القيام بالقسط الواجب لله في نفسه، فالمأتيّ للضرورة، وهو ممنوع في أصله، كالخنزير والميتة مثلا؛ لا يجوز أن يرافقها خطاب عام بإباحتها في نفسها.
والأهم من ذلك كله: أن التجربة علَّمتنا أن ذلك التصور المماهي بين مصلحة الجماعة أو الحزب أو التيار ومصلحة الدين: هو دائم تصور جزئي ومختزل، وقائم على الحزبية المستبطنة المستترة والهوى الشائب لإرادة الحق، ولو من حيث لا يدري صاحبه.
(4)
فالنقد، إذن: مسؤولية مشتركة وواجب عامّ، وفضيلة في ذاته، سواء مع وجود البديل أم عدمه. وهذا أمر بدهي تستره الأهواء. ومثالًا على ذلك: أنني إن وجدتك تمرّ بضائقة مالية ومُقدِمٌ على الانتحار، وليس بإمكاني مساعدتك ماليّا، ألا يحق لي أن أنهاك عن الانتحار؟، وأليس لا يحق لك أن تمنعني من ذلك بذريعة أنني لا أقدم البديل؟ هذا خطأ ويكفي. هل يجب على طبيب التحاليل والإشاعات أن يقدم للمريض العلاج حتى يقول له أنت مصاب بالسرطان؟ وحتى لو لم يكن للسرطان علاج، سواء في نفس الأمر أو في ظنه، أليس من واجبه الأخلاقي أن ينبه المريض لوجود الخطر، لعله يحاول على الأقل استغلال الفرصة الأخيرة بعيدًا عنه أو يعدل سلوكيات محتملة بناء على تلك المعرفة؟
هذا الصحيح الموافق لمبادئ العقل والشرع والفطرة. ونحن نعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعموم النصيحة، أمر مطلوب في الشرع، ومن كلياته الكبرى، ولا يشترط فيه أن يفعل الآمر الناهي ما يزيد على ذلك، ولكن أن يفعل ذلك بخير سبيل ممكن، بالتزام آدابه، ولو كان في نفسه عاصيًا، بل ولو كان عاصيًا في نفس الموضوع الذي يأمر وينهى فيه.
(5)
كثر الذين يقدمون الطروح النقدية حاليًا لديهم تصورات واهتمامات، وبعضها يصل إلى درجة المعالم العامة لمشروع، سواء على المستوى المعرفي أو الحركي، ولكن يجب أن تنضجها الأيام والخبرات والتكامل النفسي والعلمي، ولا تكون مجرد ردات فعل |
ثم إن النظر في دعوى أن النقد يخلو عن طرح بديل بإطلاق؛ يبين أنها دعوى متهافتة وغير صحيحة، وكسولة. فإن المعلوم، أنه لا يوجد نقد عار عن المكون الإيجابي، فأنت حين تنقد قولًا فاسدًا أو مشروعًا فاشلًا، فهذا معناه دلالة على مضاده الصحيح، نعم هذه الدلالة قد لا تمثل مشروعا، وقد لا تمثل إلا قدرًا ما منه على الأقل، ولكنها موجودة متضمنة بالتصريح وغير التصريح، كظهر العملة. يمكن لمن ينشد الانتفاع من النقد أن يستفيد منها إن صدق.
فالواقع الإسلامي الحالي يحتاج، في تقديري، عشرات الأضعاف من المداخل النقدية عما نقدمه ويقدمه غيرنا، شريطة أن يكون ملتزما بمعايير النقد الموضوعية. إنه يحتاج جيشًا من الناقدين، لأنه وضع معيب وشائه وشاذ، والذي لا يقدر أن يرى ذلك، والذي ينفيه: كلاهما من أسباب تلك الأوصاف.
(6)
وثمة تفكيك آخر لِكُنْهِ المطالبة بالطرح البديل.
(أوهام المشروع البديل)، كما أسميتُ – في كتابي (ما بعد السلفية) – النقدَ الثقافي في الإطار الإسلامي = ليس حلًّا أصلًا، بل إنه يعمق المشكلة!
فنحن نرى أن من أعظم أسباب الكارثة التي نعيش فيها أن مشاريعها قدمت قبل النضوج، قدمها شباب، لم يكتمل بناؤهم المعرفي، ولا صنعتهم الأيام، ومن تأمل في التجارب الكبرى التي في آخر قرنين من تاريخنا يصل إلى تلك النتيجة. وهذا معنى قول عمر الملهم: (تفقهوا قبل أن تسودوا). فببساطة: لا يحسن أن نعيد إنتاج نفس الكارثة، ونحل المشكلة بمشكلة أخرى أكبر. لا داعي للتسرع بتقديم طروح بديلة لمجرد سد خانة الطرح البديل، كمسوغ لمشروعية تقديم النقد للمشروعات الحالية. فلينقد ما في المشروعات الحالية من خلل وفساد، بقطع النظر عن توفر مشروعات بديلة، أو مشروعات تامة بديلة. يكفي الإعراض عن الفساد وتوضيحه، وتقديم معالجات ولو جزئية له، دون نشوة تقديم المشروعات الشمولية البديلة.
أكثر الذين يقدمون الطروح النقدية حاليًا لديهم تصورات واهتمامات، وبعضها يصل إلى درجة المعالم العامة لمشروع، سواء على المستوى المعرفي أو الحركي، ولكن يجب أن تنضجها الأيام والخبرات والتكامل النفسي والعلمي، ولا تكون مجرد ردات فعل، أو استعجال، أو وسيلة لاكتساب المشروعية وإسكات الانتقادات الدفاعية المرتدة. لا تفسدوا ما يمكن أن يصلح يومًا لأجل أن تحاموا عما هو فاسد واقعًا.
ثم إن هذه الأطروحات البديلة: قد تأتي وقد لا تأتي أيضًا، فليس أحد على الغيب بضامن، ولكن على كل تقدير: نحن قد أحسنَّا فيما صنعنا، كما نحسب، ونحاول أن نحسن فيما سنصنع، فإن وُفقنا؛ فذاك، وإلا فالمطلوب بذل الوُسع وحسن النية في الاجتهاد، لا السداد، ولا تحقيق المراد. وفاعل الصواب مشكور في نفسه، ومن لم يفعل ما يعجز عنه؛ معذور في نفسه.