يقدم لنا مصطفى حجازي في كتابه المعروف سيكولوجية الإنسان المقهور عرضاً علمياً بارعاً للمضامين الغيبية في العقلية العربية. وهو إذ يبين بصورة علمية الخلفيات الاجتماعية والسيكولوجية والتربوية لعقلية التخلف في المجتمعات العربية، يُؤكد على أنَّ تلك العقلية ما زالت تُعاني من هيمنة واسعة للخرافة والأسطورة. فهي عقلية خرافية أسطورية في مستوياتها الشعبية من جهة وفي مستوياتها الأكاديمية من جهة أخرى. فهناك شعور بأنَّ الخرافة والتقليد لا زالا يعشعشان في أعماق نفسية الإنسان العربي الحائز على درجات جامعية، تؤثر على ممارسته ونظرته إلى الأمور المصيرية على وجه الخصوص، وبالتالي فإن العلم بالنسبة للعقل الغيبي ليس أكثر من قشرة خارجية رقيقة يمكن أن تتساقط إذا تعرض هذا العقل للاهتزاز.
إنَّ العلم مازال في ممارسة الكثيرين لا يعدو أن يكون طريقاً للكسب المادي حتى في نظر الكثير من المثقفين العرب، وهذا يُنتج أجيالاً مهزومة كون معلميهم يحملون عقلية غيبية مهزومة، ويُروى أنَّ وزير الدفاع الإسرائيلي (موشيه ديان)، عندما دخل مدينة القدس بعد عام 1967م قال صائحاً: "لقد هزمنا معلميهم".
التنوير الحقيقي هو قدرتنا على الوقوف بجانب ثمار العقل والابتعاد عن الانتهازية والانغلاق، وعدائية الفكر الغيبي الذي يجعل العقل الإنساني متخلفاً، حتى نتخلص من فكر الهزيمة وندخل عصر الانتصار. |
العقل العربي عقل ارتدادي، وكلما كان الواقع المادي يُعاني من أزماتٍ يعجز عن حلها العقل أو النظام المعرفي الموجود، ارتفعت نسبة التفكير بغير المحسوس، فعند مواجهة أزمة مادية معينة لا يستطيع العقل تقديمَ حلٍ ملموسٍ لها، يلجأ للاستعانة بحلول غيبية وخيالية، وهذا يعني الانهزام والهروب، بالخروج من الواقع المادي الذي أفرزَ الأزمة، إلى محيط آخر يتصوره بشكلٍ غيرَ حسي، فيضع حلاً غيبياً لمشكلة ماديةٍ واقعيةٍ، وهذا يفسر إلى حد كبير التناقض والارتباك المعرفي والفكري في مواجهة الواقع.
العقل العربي يمر بمحنة كبيرة نظراً لتغيير طبيعته الفكرية ووظيفته الإنسانية إلى طبيعة ووظيفة غيبية، وهذا التغيير أحدثته الأفكار المستمدة من بعض العقائد الدينية والسياسية المتسلطة على الأفراد الذين يستعذبون نكهة التدين والعواطف الجياشة بالعوالم الغيبية والتي يضعها البعض حلماً وهدفاً نصب عينيه، مما يجعلها تقيد أفكاره وتعزله عن الواقع، وهذا العقل الغيبي استغله القادة السياسيون والدينيون في وضع مسميات هزيلة للهزائم التي تلحق بشعوبهم ودولهم، سواء كانت هزائم معنوية بتخلف العقل عن مجاراة الحداثة والتقدم الإنساني، أو هزائم مادية في معاركَ وحروب يتم إقناع الفرد بأنَّها مجرد نكسات أو نكبات، وسرعان ما يأتي رجال الأديان الموالين للسلطة لتفسير تلك النكبات بأنها عقاب من الآلهة على عدم عبادة الله وفساد الناس وفجورهم، لتستمر محنة العقل الغيبي للإنسان المجبر على تصديق ما يقال له؛ حتى لا يعتبر عاصياً لمشيئة الآلهة.
وكمحصلةٍ لما سبق، فالهزيمةُ تنتشرُ في العقول المبتعدة عن المنهج العلمي في البحث والتفكير، وتجد نفسها فيها، نظراً لكون هذه العقول تميل إلى ما يعوضها عن لذة الانتصار بالبحث عن أمورٍ ترفع شأنها، أو عن خرافات تسعى جاهدةً لإقناع الآخرين بها لكسبِ شيءٍ من الاحترام، أو تعويضاً لنقصٍ دائمٍ في التخلص من الهزيمة. متناسيةً أنَّ التقدم والازدهار هما نتاج التحرر من القوى التي تتخذ من الدين والسياسة ستاراً للهيمنة على إرادة البشر، والتخلص من القمع والجمود والتقليد الأعمى للتاريخ الذي لن يعود.
التنوير الحقيقي هو قدرتنا على الوقوف بجانب ثمار العقل والابتعاد عن الانتهازية والانغلاق، وعدائية الفكر الغيبي الذي يجعل العقل الإنساني متخلفاً، حتى نتخلص من فكر الهزيمة وندخل عصر الانتصار. وفي هذا السياق يُعَلِّق مصطفي حجازي في معرض تفسيره لظاهرة السيطرة الخرافية على المصير عند الإنسان العربي بالقول: "السيطرة الخرافية على الواقع، والتحكم السحري بالمصير، هما آخر ما يتوسلهما الإنسان العربي عندما يعجز عن التصدي والمجابهة، قبل أن ينهار ويستكين. وتشكل هذه السيطرة بالتالي أحد خطوط الدفاع الأخيرة له. ويتناسب انتشار الخرافة والتفكير الغيبي في وسط ما مع شدة القهر والحرمان، وتضخم الإحساس بالعجز، وقلة الحيلة، وانعدام الوسيلة، فتكون النتيجة، هزيمة على كافة المستويات".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.