يقول "شولتز": "سيكون خطأ جسيماً أن نشبّه الإنفاق على التعليم بالاستهلاك الجاري". إن السياسة التعليمية التي تم توخيها زمن حكم الطاغية في تونس جعل للدولة سلطانا غريبا يمنح جزء كبير من الضعفاء و الفاشلين من التلاميذ فرحة زائفة بالنجاح، وهذا الزيف المسلط عليهم يعد باهضا وتتحمله التنمية و المنظومة التعليمية عموما في شكل عرقلة، واضطراب، وتفكّك، ثم يتحمله بعد ذلك التلميذ نفسه المخدوع والمستدرج بطريقة سلسة نحو الخروج من المنظومة يوما ما وربما حتى المجتمع بأسره، باستثناء من اتخذ لنفسه طريقا في زحمة الحياة، بعد إعادة هيكلة أو برمجة وبنفس القدر تحت مسمى إعادة الإدماج، عن طريق برامج ومناهج جديدة بعيدة كل البعد عن المدرسة العمومية وحتى هذه المبادرات الترقيعية لا تصلح الاعوجاج لأن برامجها تبقى بعيدة كل البعد عن خصوصيات هؤلاء الضحايا من أبنائنا.
هذا المارد العجيب أعطى للمنظومة التعليمية مجالا واسعا حتى تفعل ما تريد هي لا ما ترغب به المدرسة من تكوين من قبيل نجاح وانتقال أطفال أبرياء بشكل تعسّفي إلى المستوى الموالي في حين أنّه من حقهم ممارسة فعل التعليم و التعلّم بشكل تام قبل الانتقال إلى هذا المستوى. وبنفس التوجه اللامعقول تمّ تقديم حشودا هائلة من المتخرجين للمجتمع، في محاولة للإيهام بكونه دفع إلى الأمام، ولكن الواقع يدفع بها إلى الهامش لتصير كمّا مهملا، وطاقات معطّلة، فتتحوّل إلى عبء ثقيل، ورأس مال مهدور، وفي ذلك ما فيه من إيقاف لعجلة التنمية، أو عرقلة لدورانها بسبب ما يترتب عليه من فقر و بطالة و أمية و انحرافات بأشكال مختلفة.
لا شك أن من الأسباب الجوهرية لتفاقم الأزمة التربوية هو فشل النظام الاجتماعي حيث أن غياب استراتيجية واضحة لربط مؤسساته المجتمعية المختلفة سواء منها الرسمية أو الغير رسمية بالمتغيرات المعاصرة أدّى وجوبا إلى اختلال العلاقة بين المدرسة والاقتصاد، ومسؤوليتنا اليوم هي تجسير الفجوة بين التنمية و التعليم، بين المصنع والمدرسة، بين كراسي الدراسة واحتياجات الحركة الاقتصادية والتجارية في بلادنا، ذلك أن استمرار هذه الفجوة، يعني استمرار مخرجات تربوية وتعليمية، لا يحتاجها الوطن بشكل ملح، وهو ما سيَفتـح بالضّرورة أبوابا للعمالة الأجنبية، ويُؤدي إلى غياب القدرة على المنافسة في سوق العمل لدى الشباب.
اليوم بات ضروريا تفعيل الشراكة المتكافئة على أساس التفاعل البنّاء والاتصال المستمر والشفافية المطلوبة وفتح الباب أمام كل المنظمات والجمعيات والنقابات ذات الصلة المباشرة بملف الإصلاح التربوي والجامعي |
من هنا ُيُفتح ملف الإصلاح التربوي والجامعي في السياق العام للسياسة المتّبعة من قبل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة ليظل هذا الملف الأكثر امتناعـا على الإحاطة، فبرغم البرامج المُتتالية المقدّمة من قبل صناع القرار وبرغم الشعارات المرفوعة المتعلقة بالتشاركية والتشاور لازالت هنالك استفهامات نجدها اليوم تستفز فضول الكثيرين سواء في المعارضة أو في صفوف نشطاء المجتمع المدني والمختصين. وفي ظلّ عدم التوازن الذي يطغى اليوم على المشهد السياسي في تونس والذي ألقى بضلاله على سياسات الدولة في عمومها وخصوصا تحت قبة البرلمان الذي أصبح أقرب إلى موزاييك متحرّكْ بأنماط صراعية تترجم العلاقة المُتوترة وربّما المبهمة في كثير من الأحيان بين المعارضة والحكم من ناحية وبين مكونات السلطة من ناحية أخرى، لا بدّ من طرح التساؤل حول مصير التعليم بداية من المدرسة إلى الجامعة اللذان يعيشان أزمة وعدم تناغم مع نبض المجتمع الطامح إلى مجتمع ديمقراطي تشاركي.
اليوم بات ضروريا تفعيل الشراكة المتكافئة على أساس التفاعل البنّاء والاتصال المستمر والشفافية المطلوبة وفتح الباب أمام كل المنظمات والجمعيات والنقابات ذات الصلة المباشرة بملف الإصلاح التربوي والجامعي وتجنب سياسة الإقصاء تحت أي وصاية أو مفعول، حيث يتم بمقتضاه تحديد التوقعات و الأهداف والاهتمامات والمسؤوليات والمصالح المشتركة بينهما كشركاء متساويين بغية تحقيق تعلم الأبناء والوقوف على التحديات التي تواجهها المؤسسة التعليمية ككلّ وآليات التعاون لتفعيل العلاقة والشراكة بين المجتمع والمدرسة، حيث أن الشراكة تقوم أساسا على النظرة للتعليم باعتباره أمراً مجتمعياً وقضية أمن قومي، ومدخلا لتحقيق ديمقراطية التعليم المنشودة. ويترتب على ذلك التعامل مع العمل التربوي لا بحسب أنه أمر يخص التربويين وحدهم، بل قضية مجتمعية لا بد وأن يشاركهم فيها المجتمع بكافة أفراده وقطاعاته وهيئاته ومنظماته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.