وسأتحدث عن هذا الموضوع من ثلاثة وجوه مختلفة، واجبٌ على كل مسلمٍ عاقلٍ مراعاتها والالتفات لها قبل إطلاق العنان لعقله البشري!
أما الوجه الأول فهو يستند للمقصد، حيث إن المقصد من شرائع هذا الدين جاءت لمراعاة مصلحة الجماعة أكثر من المصلحة الفردية وقدمها عليها! فعلى سبيل المثال كثير من الشرائع وضعت لمصلحة الجماعة وإن نظرت لها بشكل فردي قد لا توافق عقلك شخصيا، وهذا بالطبع غير مبرر لك أن ترفضها بحجة العقلانية، ومثال ذلك الزكاة فقد ترى أنها لا توافقك شخصيا ولا توافق هواك، ولكن لو نظرت لها على مستوى الجماعة رأيت فيها الخير الكثير! وكذلك الأمر بموضوع حد الزنا مثلا! والكثير من الشرائع الأخرى، وهذا بالطبع لا يتنافى مع أن "شرائع الدين جاءت لحفظ مصلحة الفرد والجماعة"، ولكنها ببساطة قدمت مصلحة الجماعة على الفرد، وهذا منطقي جدا! وهذا مقصد للأسف يغفل عنه الكثير من "عقلانيي" اليوم، ومن لم يراعي هذا المقصد ولم يتنبه له فليسمح لي بالقول أن عقليته قاصرة وأنانية! وأنه بحاجة إلى التثقف في مجال العقيدةِ كثيرا!
لا بد لنا من وقفة مع أنفسنا قبل أن نطلق العنان لتفكيرنا ولا بد لنا من البحث والتروي والتعلم ومراعاة المقاصد للوصول إلى الحقيقة! |
أما الوجه الثاني، إن الإسلام عندما وضع الشرائع لم يفصّلها على عقول كل بشريّ، فمن البشر من تفكيره سويّ أكثر من غيره، ومنهم من لا يستطيع كبح شهواته وعزلها عن عقله وتفكيره، ومنهم من يستطيع تقنينها وعزلها جزئيا عن تفكيره، وهذا الاختلاف لا يعني أنّ شرائع الإسلام مجبرة على التغير لتوافق كل عقلٍ بفكره! فلو تحدثنا عن حد السرقة على سبيل المثال هل يجوز للسارق أن يرفضه لأنه لم يوافق عقله!؟ ولتعلم أن معظم اللصوص عندما ينون السرقة يبررون ذلك لأنفسهم بآلاف الحُجج وقد يستطيعون إقناعك ببراءتهم، وكذلك حال كل من يفعل الكثير من الأمور المرفوضة كالزنا والظلم وأكل حقوق الضعفاء، فهل من المنطق أن يكون العقل هنا هو الحَكَم الأساسي لقبول الشرائع ورفضها! وعلى هذه الحال إلى أي غابةٍ سنصل!؟ واهمٌ من ظن أنه سيصل لهذه الشرائع بتفكيره القاصر فقط، فهو بالنهاية بشري!
لذلك لا بد لك أن تعلم أن حاجة الناس الأساسية لفكرة الدين، هو حاجتهم إلى شرائع تعمل على تنظيم شهوات الناس حتى لا نضحي كالحيوانات في الغابة، ومن هنا جاءت ضرورة وجود شرائع ربانية تعمل على تنظيم الحياة لا تشوبها الشوائب الإنسانية القاصرة، فطبيعة الإنسان مهما بلغ به الفكر لن يستطيع تحييد شهوته وحظ نفسه من فكره، وهذا ما ميز الشرائع الربانية عن الإنسانية، وهذا ما جعل الشرائع الربانية تتفوق أكثر بكثير على الشرائع الوضعية من قبل البشر!
أما الوجه الثالث والأخير الذي لا بد من ذكره سريعا، إن الصحابة وكثير من العلماء الإسلاميين العِظام -الذين شهد لهم التاريخ برجاحة عقولهم وسداد رأيهم قضوا أعمارهم كاملة فقط في العلم والتعلم لاستنباط شرائع هذا الدين وترسيخها، ومعظمهم قدم للإسلام ما عجزت عنه الأمة اليوم كاملة عن تقديمه- قد استخدموا عقولهم وأبحروا باستخدامها ووصلوا للحقيقة ورسخوها، واتفقوا على كثيرٍ منها دون أدنى خلاف، واليوم يأتي من لا يتقن قراءة صفحتين من كتاب الله، وعمره لم يتجاوز العقدين، ولا يعلم عن قواعد اللغة شيئا، وتحصيله العلمي لا يؤهله لدخول السجن حتى، متبجحا ويهاجمهم ويكذبهم دون أقل وعي أو مراعاةٍ لجهودهم! فهل هذا يمت للمنطق بصلة!؟ بربكم أخبروني إن أصابكم داء -لا سمح الله- أستذهبون لطبيبٍ مختصٍ متمرس قضى عمره بالتعلم، أم لمجرد هاوٍ قد لا يحفظ إلا أسماء بعض الأدوية!؟ فمالكم كيف تحكمون!؟
في النهاية لا بد لنا من وقفة مع أنفسنا قبل أن نطلق العنان لتفكيرنا ولا بد لنا من البحث والتروي والتعلم ومراعاة المقاصد للوصول إلى الحقيقة! لأن إطلاق العنان لعقولنا دون أدنى حدٍ من المنطق سيحول هذه العقلانية إلى "شهوانيةٍ" مقيتةٍ فقط!