شعار قسم مدونات

عربي المولد.. غربي الهوى

blogs - muslim kid
أحيانا يُخيل إليّ أنني لا أنتمي لهذا الزمان وأنني كان يجب أن أولد قبل مائة عام أو يزيد، وأن عقلي قد صحا للتو من سباته ليجد نفسه محبوسا في جسدٍ ينتمي للقرن الواحد والعشرين، بعد أن كان آخر تحديثٍ للمعلومات سُجل عليه من فوق صهوة جواد..

نعم إنها المبالغة.. فلا مظهري في واقع الأمر يختلف مطلقا عن مظهر بنات جيلي ولا أنا من هواة العيش بأمجاد الماضي أو من كارهي الحداثة وتبعاتها.. القصة وما فيها أن عقلي لم يستطع إلى الآن أن يتقبل ذاك المشهد الذي نجح كل مرة باستفزازي ووجدت نفسي دائما عاجزة عن تبريره مهما حاولت، المشهد الذي حتى مع تكراره فإنه مازال يحرق دمي وكأنني أراه للمرة الأولى..

"ماما هدول الناس أجانب؟"
"لا حبيبتي هدول عرب متلنا"
"طيب ليش عم يحكوا مع بعض بالإنكليزي؟"
"ممممم، يمكن لأنه أمهم بدها تعلمهم اللغة الإنكليزية"
"ماما.. طيب إيمتا بدون يتعلموا اللغة العربية؟!"
"والله معك حق.. بصراحة ما عندي جواب!"

تُرى هل يعلم هؤلاء الآباء والأمهات آخر هذا الطريق الذي يسيرون فيه أم أنهم قطيعٌ منوّمٌ برائحة حضارة الغرب المزعومة يسيرون خلف لافتة كُتب عليها "مستقبل أبنائكم من هنا"؟!

كانت تلك إحدى المرات – وما أكثرها – التي أرى فيها أمّاً عربيّة مسلمة تعيش في بلد عربيّ، وهي تتحدث مع أطفالها باللغة الإنكليزية، وكانت تلك "المحاكمة العقلية المنطقية" التي قامت بها ابنتي ذات الست سنوات والتي سألت فيها سؤالا بسيطا لكن مع بساطته أصاب في مقتل، وأنا بدوري هنا أريد أن أسأل سؤالا آخر، تُرى هل يعلم هؤلاء الآباء والأمهات آخر هذا الطريق الذي يسيرون فيه أم أنهم قطيع منوّم برائحة حضارة الغرب المزعومة يسيرون خلف لافتة كُتب عليها "مستقبل أبنائكم من هنا".. إن كانوا فعلا لا يدرون فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظمُ..

لا شك بأن اللغة العربية لغة عظيمة من حيث الغنى والاشتقاق والإيجاز وغيرها من الخصائص التي تميزها عن غيرها من اللغات، لكنّ هذا ليس سبب دفاعي عنها وتمسكي بها، كما أنني لا أعتقد أن تعليم اللغات الأجنبية لأطفالنا وما يُكتسب معها من أفكار وعادات ونمط حياة غربيّ سيفسد بالضرورة عقل وأخلاق أطفالنا، بل أؤمن تماما أن واقع الحياة في زمننا هذا يشير وبوضوح إلى أن إتقان أطفالنا للغة الإنكليزية التي هي اليوم لغة العلم والاختراعات والثقافة أضحى أمرا لا فكاك منه، لكن أن يعيش طفل مسلم عربيّ في أسرة تتحدث بلغة غير لغتها فهو أمر له تبعاته بلا شك..

تبعاته التي أتحدث عنها ستصل لهؤلاء الآباء والامهات عاجلا أم آجلا بطريقة أو بأخرى، ولن تكون غالبا على شكل رسالة مباشرة من ابن لوالديه كالتي ستقرأونها الآن، لكن فحواها ستشرح نفس الحال والمآل..

أمي وأبي العزيزان:
كم تمنيت أن أكتب لكما هذه الرسالة باللغة العربية، لكني كما تعرفان بالكاد أستطيع تكوين جملة دون أخطاء رغم أني ولدت وأعيش بين العرب..

أنا في الحقيقة شاكر لجهودكم التي بذلتموها من أجلي وللأموال الطائلة التي صرفتموها على تعليمي في المدارس الأجنبية والجامعات الغربية التي سهلت عليّ فيما بعد خطواتي وفتحت لي أبوابا، لكن هل تعلمون أني اكتشفت عندما خرجت للواقع أن تلك الأبواب لا تُفتح فقط لأمثالي وأن ما يوصلني للتميز في الحياة الذي طالما شجعتموني عليه أكثر بكثير من مجرد لغة إنجليزية وشهادة جامعية مرموقة وأسلوب حياة مطابق لحياة الأجانب..

هل تعرفون من أنا؟، أنا مسلم عربيّ مثلكما لكن اسمي الأجنبيّ الذي اخترته لي يا أبي قد خدعني كما خدعَتني حياتي ولغتي والطعام الذي تناولته والموسيقى التي سمعتها والعلاقات التي كونتها.. عشت حياة مستعارة بلغة مستعارة وأحلام مستعارة، وكما تعلمان فإن ثوب العيرة لا يُدفئ لابسه..

اكتشفت عند سفري إلى بلاد التحضر واختلاطي بمن ظننت أنهم يشبهونني أني غريب بينهم أكثر من غربتي بين أبناء بلدي..

أمي وأبي.. لقد نجحتم في جعلي إنسانا أجنبيا بامتياز، أجنبيا أكثر من الأجانب أنفسهم، أجنبيا تماما عن ديني وعن انتمائي وعن مبادئي.. لا تلوموني أرجوكم فمعلوماتي عن الدين الاسلاميّ لا تزيد عن بعض السور القصيرة التي حفظتها عندما كنت في الابتدائية، ومعلومات بسيطة عن سيرة الرسول وصوم رمضان وصلاة الجمعة، لطالما ظننت العيب حراما والجهاد ضلالا والربا حلالا.. لم أستطع يوما أن أستشعر جمال القرآن لأني لا أفهمه، أما قراءة كتاب في السيرة والتفاسير فهو بالنسبة لي أشبه بفك الطلاسم..

بالله عليكم، كيف يمكن أن أكون سوريّا دون أن أعرف من هو يوسف العظمة!، أو مصريا وأظنّ أن مصطفى النحاس هو مجرد اسم شارع!، أو خليجيا ولا أفقه شيئا عن القبائل العربية وتاريخها، أو لبنانيا وأعتقد أن وجود نهرٍ باسم نهر الكلب هو من باب المزاح!، قولوا لي كيف يمكن أن أعيش على أرض أجهلها وأجهل تاريخ أجدادها الذين هم أجدادي، وكيف يمكن أن تعقدوا آمالكم عليّ لبناء مستقبل هربتم أنتم من حاضره!..

معلّق أنا يا أمي بين السماء والأرض، لا أرض أضع عليها قدميّ لألمس واقع مجتمعي الذي أسكنه، فأنا بعيد كل البعد عن هموم أقراني وتطلعاتهم لأني أنظر إليهم من خلال النظارة التي ألبستموني إياها، فأرى نفسي أفضل منهم بأشواط.. ولا سماء أطير فيها يا أبي لأحلقّ بين أحلام طالما رسمتها، فقد اصطدمت بأول حلم قررت ملاحقته، واكتشفت عند سفري إلى بلاد التحضر واختلاطي بمن ظننت أنهم يشبهونني أني غريب بينهم أكثر من غربتي بين أبناء بلدي..

أبواي.. إن كان حالي هذا يعجبكم وهو ما أردتموه فعلا، فاستمروا إذن باستهتاركم بلغتنا العربية ولهاثكم وراء مفهومكم القاصر للحضارة، أما إن كان حالي هذا قد أزعجكم وأقلق راحتكم فإياكم أن تلوموني بل لوموا أنفسكم، فأنتم يا أمي وأبي من أخذتم بيديّ وأوصلتموني إلى هنا..

ابنكم المحب..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.