شعار قسم مدونات

الثورة السورية.. أزمة أخلاق قبل أي شيء

A protester holds a Syrian opposition flag and chants slogans during a sit-in, in solidarity with the people of Aleppo against the Syrian regime, in front of the UNDP office in Amman, Jordan, December 17, 2016. REUTERS/Muhammad Hamed

لم يكن مُتصوراً أن يتخلص السوريون وهم (يخطًون بدمائهم ملامح درب مستقبل جديد نحو الحرية والكرامة) أن يتخلصوا بسهولة من بعض الموروثات الأخلاقية والأمراض الاجتماعية التي اصطبغوا بها عقب نصف قرن من حكم البعث والأسد رضعوا خلالها لبان كل ما هو ذميم ودميم من خصال وسلوك وأخلاق، وذاك أمر طبيعي فحقب الاستبداد عموماً تضيق مساحة الخير في نفوس الشعوب المقهورة والمسحوقة لشدة ما تذيقهم من ويلات الظلم والعسف مصحوبةً بلا مبالاة مجتمعية وخذلان عام.

المستبدون الطامحون للحكم (إلى الأبد) عادةً ما يبدأون بتدمير عنصرين رئيسيين في المجتمعات التي يرغبون بتدجينها وسلب عناصر قوتها وتماسكها ومقاومتها وهذان العنصران هما: (الدين والأخلاق)، فمن خلال محاربة الأول وتحجيمه وحصره ببعض الطقوس الشكلية يقتل المستبد في نفوس المسحوقين جميع عناصر المقاومة ورفض الهوان والاستكانة، وعبر تشويه الثاني يُعدم عوامل الثقة بين مكونات شعبه ويبذر مكانها الانحلال والشقاق والتنازع.

لكن ما لم يكن متصوراً أن لا يفطن السوريون لضرورة التخلص من هذه الموروثات بل أن يتمسكوا بها ويسمحوا لها بالاستمرار لتبلغ حدوداً جديدة من السيطرة على طباعهم وأخلاقهم، وما لم يكن متصوراً أيضاً أن لا يفقه السوريون أن المعنى الحقيقي للثورات ليس إسقاط حاكم مستبد جائر فقط، بل هي إسقاط لجميع موروثات وملامح حقبته التي كانت سبباً مباشراً أو غير مباشر فيما وصلوا إليه من جهل وتخلف وتفكك وهوان.

من ملامح التأزم الأخلاقي الذي تمر به الثورة السورية: التشكيك والنظر بعين الريبة لكل ما يصدر من الغير والذي قد يصل أحياناً حد التعيير والفرح بالهزيمة والشماتة عند الانكسار.

تلك الغفلة عن المعنى الحقيقي للثورة كنا نحصد ثمارها دون أن نشعر منذ بداية ثورتنا، غير أن الزخم والعنفوان اللذين رافقا تفجر الثورة وتنسم عبق الحرية للمرة الأولى ووجود عدو مشترك يتهدد الجميع ساعد على خمول وسُبات تلك الموروثات إلى حين، ومع تطاول أمد الثورة وشدة المحنة التي نزلت بالسوريين وشعورهم بالعجز وحجم الخذلان الذي ذكرّنا بما عشناه سابقاً في كنف المستبد أعاد تنشيط هذه الموروثات من جديد بل ودفع بها إلى مراحل جديدة من الاستفحال. وقد تجلى ذلك من خلال أزمة أخلاقية حقيقية تمر بها الثورة اليوم وحالة غير مسبوقة من انعدام الثقة بين مكوناتها والتي تزداد تفاقماً مع مرور الوقت مهددة إياها بالسقوط المعنوي والأخلاقي قبل الفشل العسكري والارتهان السياسي.

– يمكن تلخيص بعض ملامح التأزم الأخلاقي الذي تمر به الثورة من خلال بعض السلوكيات التي أضحت حالة عامة، منها على سبيل المثال:
1- ضعف الانتماء العام للثورة و بروز التعلق الوثني بالفصيل أو الجماعة أو الحزب أو حتى التيار السياسي.
2- حجم الإسفاف والطعن وفقدان الثقة بين النخبة الثورية قبل غيرها والتي بلغت مبلغاً لا يمكن تبريره أو قبوله أو حتى التعايش معه.
3- الاجتراء على الرمي بالعمالة واستسهال التخوين عند أبسط خلاف أو نزاع.
4- الفجور عند الخصومة والتشنيع بالمخالف لحد تجاهل الحسنة وكتمانها وإشاعة السيئة وتضخيمها بل وأحياناً لابتغاء الأعذار للعدو والظن بها على الصديق.
5- التشكيك والنظر بعين الريبة لكل ما يصدر من الغير والذي قد يصل أحياناً حد التعيير والفرح بالهزيمة والشماتة عند الانكسار.
6- الاعتقاد أن ارتفاع أسهم الكيان الذي أنتمي إليه لا يرقى إلا على حساب تحطيم سمعة الغير والقدح به وتحقير شأنه أمام الصديق قبل العدو.
7- المبالغة في الاعتداد بالرأي لدرجة اعتبار كل ما أفعله أنا أو الكيان الذي أنتمي إليه محض مصلحة وكل ما يأتي به غيري (ولو تشابه الفعلان) جهل إن لم يكن عمالة.
8- غياب الموضوعية والإنصاف عبر كيل المديح ونثر أوسمة البطولة للموافق والاسترسال في تسفيه المخالف، وقد شهدنا تقلبات مرعبة وخلال فترات وجيزة لدى مكونات ثورية كثيرة، ما بين شيطنة الخصم عند الاختلاف وخلع الطهر الملائكي عليه عند التوافق والائتلاف.
 

هذا النوع من الأزمات الأخلاقية ليست من النوع الذي يمكن تجاهله أو التعايش معه بل هو كفيل وحده بتفكيك مجتمعات كاملة وهدم أمم وإسقاط حضارات، فكيف بثورة يتيمة يحاربها نصف أمم الأرض ويتجاهل حجم مأساتها النصف الآخر. ولعل أخطر ما في الأزمة الأخلاقية التي تمر بها الثورة اليوم أن فلسفة الثورات عموماً تقوم على جملة من القيم والمبادئ والأخلاق تميزها عن الطرف الآخر الذي ثارت عليه، ويتحشد الناس من حولها ويتبنون أفكارها بسبب هذا التمايز وهو ما يعطيها زخمها وعنفوانها وعوامل صمودها ونجاحها، فإذا أحس جمهورها وحاضنها أنها تتشابه مع الطرف الآخر انفضوا من حولها بل وآثروا الرجوع إلى سابق عهدهم الذي كان يوفر لهم على الأقل بعض مقومات الحياة والأمن. وختاماً: كما كان أمير الشعراء أحمد شوقي بعيد النظر ثاقب البصيرة حين علق بقاء الأمم واستمرارها بأمر جوهري واحد.. وهو الأخلاق، فقال: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.