شعار قسم مدونات

تونس بعد الثورة: الدولة تلقي أبناءها في اليمّ

blogs - الاتحاد العام التونسي للطلبة

لم أكن أصدّق أنّ المريض يهدر الجرعة الأخيرة من دوائه حتّى رأيت معاملة الدولة في تونس الاتحادَ العامّ التونسي للطلبة طيلة فترة إعداده مؤتمره السابع وأيّام انعقاده. ولم أسمع قطّ بأمّ تقذف أبناءها في اليمّ، عدا أمّ موسى، حتّى شهدتُ تلك المعاملة. لقد كان الاتحادُ العامّ التونسي للطلبة في فترة نشاطه الأولى الممتدّة بين تأسيسه سنة 1985 وحلّه سنة 1991 من قبل نظام الجور والاستبداد صوتَ الطالب التونسيّ بهويّته وشواغله وطموحاته والهيكلَ الطلّابيَّ الذي انتصر لكلّ طلبة تونس بمختلف جهاتهم وانتماءاتهم. إلّا أنّ رفضه الوصاية على الجامعة من قبل النظام القائم وقتئذ وانتماءَ الطلبة الإسلاميّين له كسائر الطلبة كانا كافييْن ليضرب له نظام الاستبداد موعدا مع حلّه وإسقاط قتلى في صفوف قياداته واعتقال الآلاف من أنصاره وسجنهم والتنكيل بهم إلاّ من تحصّن باللجوء خارج تونس.

وباندلاع الثورة، فرّ المستبدّ وعاد المتحدّ. عاد الاتحاد العام التونسي للطلبة ليستأنف دوره الوطني على قواعد الجامعة الشعبيّة والتعليم الديمقراطيّ والثقافة الوطنيّة وليعقد مؤتمره الخامس في أفريل 2013، ثمّ السادس في مارس 2015، ثمّ السابع بين يوميْ 18 و21 مارس الجاري، إلاّ أنّ إعداد المؤتمر الأخير وانعقاده لم يكونا في ظروف طبيعيّة. اختار الاتحاد عقد مؤتمره السّابع بين كليّتيْ طبّ الأسنان والصيدلة بالمنستير مسقط رأس الحبيب بورقيبة زعيم ما يسمّى بالدساترة في تونس. ولكنّه لم يكن مخيّرا في إعداد مؤتمره وعقده، إذ فرضت مختلف السلط الجهويّة الوسطى على لجنة إعداد المؤتمر من الوقائع ما كان يستهدف منع المؤتمر من الانعقاد.
 

أعادت صور معاناة المؤتمِرين، وهم صابرين مرابطين في سبيل إنجاح مؤتمرهم، إلى الأذهان موقف الدولة من الاتحاد طيلة فترة نشاطه الأولى قبل ثلاثة عقود من الزمان. ذلك الموقف الذي تطوّر من الحذر إلى الرفض ثمّ الحلّ.

فقد امتنع عميدا الكليّتين عن منح الاتحاد ما يحتاج من قاعات ومدارج تقتضيها أشغال مؤتمره لو لا تدخّل وزارة التعليم العالي في اللحظات الأخيرة. وسحبت مصالح الإدارة الجهوية للخدمات الجامعيّة الموافقة على منح الاتحاد مطعما جامعيّا لتوفير ما يحتاجه المؤتمِرون من وجبات غذائيّة طيلة أيام المؤتمر الأربعة رغم تزامن انعقاد المؤتمر مع دخول الطلبة في عطلة الربيع. كما امتنعت نفس مصالح الإدارة عن توفير فضاء جامعي لمبيت المؤتمِرين مبرّرة ذلك بضغوطات مسلّطة عليها من قبل أهل النفوذ الجهويّ. إضافة إلى عدم استجابة السلطة الجهوية العليا ممثلة في والي محافظة المنستير لمناشدة الاتحاد التدخّل لتسهيل عقد المؤتمر.

لقد أنتجت هذه التصرّفات من قبل بعض الأشخاص الماسكة بالمصالح الجهويّة مشاهد لا تعبّر عن احترام الدولة أبناءها وشبابها الساعي إلى النشاط المنظّم والمقنّن، إذ قضّى المؤتمرون وعددهم 514 مؤتمرًا إضافة إلى الأنصار ليلهم في ساحات الكلية وأرصفة الطرقات دون أكل أو شرب. ولم يخفَ على متابع تورّط بعض نوّاب محافظة المنستير الذين يمثّلون امتدادا سياسيّا لمنظومة الاستبداد التي ثار عليها الشباب في الضغط على المصالح الجهويّة لعرقلة جهود انعقاد مؤتمر الاتحاد العامّ التونسيّ للطلبة حتّى بلغ الأمر حدّ إعلان أحد وزراء مرحلة الاستبداد القول: لا مجال لانعقاد مؤتمر الطلبة الإسلاميّين على أرض بورقيبة.

لقد أعادت صور معاناة المؤتمِرين، وهم صابرين مرابطين في سبيل إنجاح مؤتمرهم، إلى الأذهان موقف الدولة من الاتحاد طيلة فترة نشاطه الأولى قبل ثلاثة عقود من الزمان. ذلك الموقف الذي تطوّر من الحذر إلى الرفض ثمّ الحلّ. كما انعكس على تلك الصور تهميش الدولة مستقبلها بتهميشها شبابها المنظّم والمثقّف رغم شدّة حاجاتها إليه أبدا في معاضدة جهود السلم الوطني وتحصين الشباب من التطرّف والأفكار الهدّامة وإعدادهم لمستقبل البلاد. ولاح جهارا معضلة السلطة الوسطى والقوى الجهويّة في تونس، إذ مازال النفوذ الجهويّ مسيطرا على الجهات عبر مصالح الدولة. وهذا ما يستدعي تدخّل السلط المركزيّة ممثّلة في رؤساء الدولة والحكومة والأحزاب والمنظّمات الوطنيّة للحدّ من شؤم المحسوبيّة والبيروقراطيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.