شعار قسم مدونات

آباؤنا عباقرة العصر

مدونات، الوالدين
مَن المحظوظ الذي لم يلبسه الضحك والاستهزاء من منشورات أبويه أو معارفه كبار السن ذوات العناوين: "لا  تخرج قبل أن تقول سبحان الله"، و "انشرها ولك الأجر"، أو "علاج للسرطان في خمس خطوات"، وعلى منوالها الكثير. كم سخرنا من براءة تفكيرهم واستخدامهم الساذج لمواقع التواصل الاجتماعي، وتصديقهم جميعُ ما تقدمه الصفحات التجارية، التي كرست جهودها لتجميع عددٍ ضخم من المتابعين، مستخدمين الدين ذريعةً لجذب الانتباه، أو لاعبين على وتر العلم للشفاء والعلاج من الأمراض المستعصية، أو من سرح بهم الجهل أكثر إلى نشر أفكارٍ غريبة تثير فضول القارئ دون استثارة عقله.
لكن إن نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، سيقع على أعتاقنا الاعتذار الشديد لكل الآباء وكبار السن الذين أغرقوا صفحاتهم بتلك المشاركات، فكم كانوا أذكياء كفاية لاستخدام تقنية جديدة لم تكن على أيامهم. وليس ذلك فحسب، بل أثبتت التكنولوجيا الحديثة أن آبائنا خارقين في ذكائهم، واستطاعوا رغم "تسونامي" المعلومات الهائلة أن يكونوا أهلاً لها، ويدخلوا عالم الشاشات من أوسع أبوابه، متخطين مخاوفهم من لغةٍ رقميةٍ جديدة، مثبتين أن التعلم لا يقف عند رقمٍ معين ما دامت الإرادة موجودةٌ لاكتشاف الحياة يومياً.

ولأجل مواكبة هوس الأبناء الجديد، كان لابد من التعرف على الانترنت وعوالمها المختلفة، بشكلٍ بسيط يميل إلى العفوية والطيبة.

أذكياء العصر آباؤنا، وجهابذة القرن أمهاتنا، الذين دفعتهم ظروف الغربة والبعد عن الأولاد للتعامل مع الأجهزة الذكية، بعدما تجاوز معظمهم من العمر زمناً طويلاً، وأصبحت الرقميات بالنسبة إليهم بدعةً مستحدثة، وربما شبحاً يخافون الاقتراب منه. ليس غريباً أن يستخدم جيلنا والأجيال اللاحقة التكنولوجيا بكل رشاقة، وسهولة في التعامل مع المعلومات وإخضاعها لعقلٍ نقدي حاد، يستطيع التمييز بين مَن ينشر أفكاراً سطحية، وبين الذين يعملون بالدقة والمصداقية في طرح المواضيع والحقائق، بينما الأجيال السابقة وصلها التطور الرقمي على حين عجلة، ولأجل مواكبة هوس الأبناء الجديد، كان لابد من التعرف على الانترنت وعوالمها المختلفة، بشكلٍ بسيط يميل إلى العفوية والطيبة.

بالنسبة لوالدي، كان هاتف اللمس ضرباً من المستقبل، وشيئاً ليس بحاجته طالما يوجد في جيبه هاتفٌ ذو أزرار، وفي بيتنا جهازٌ أرضي يعتمد عليه في اتصالاته، حتى أنه كان ينهرني وإخوتي على انصهارنا في مواقع التواصل، واعتبارها مضيعةً للوقت. أما اليوم، بات متمرساً في عالمه الافتراضي، مدفوعاً بالرغبة والشوق إلى التواصل الدائم مع ابنته في غربتها، وملاحقة أخبارها أينما وضعت رحلها التطبيقات المتنوعة، ذاك الرجل نفسه قال لي يوماً: "لا داعي للانترنت إذا كنت وصحبك في مكانٍ واحد"، ليثبت له الزمن لاحقاً أن البلد الواحد تشعب وتفرق، وتقطع وتمزق، وأصبح يتنفس من خلال مواقع التواصل ليطمئن على صديقٍ مسافر، وقريب في الغربة مُجاهر.

لا أجمل من الطاعنين في العمر، الذين تحدوا كل الصعوبات وتجاوزوا كل المخاوف لينسابوا إلى العالم العنكبوتي، أؤلئك هم العباقرة حقاً، أغرقتهم التكنولوجيا بمدّها، فطافوا بأيديهم المجعدة على وجهها بكل دماثةٍ وطيبة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان