شعار قسم مدونات

لبنان على خطى اليونان

blogs - علم لبنان
في معرض كلامه من مجلس النواب، بعد رفع الجلسة التشريعية بسبب عدم اكتمال النصاب، قال رئيس حكومة لبنان سعد الحريري "واجبنا كحكومة وكمجلس النواب، أننا عندما نعقد أي شيء من صرف، يجب أن يكون له إيرادات، فنحن لا نريد أن يحصل ما حصل في اليونان أو الدول التي أعلنت إفلاسها”. الحريري استخلص من أزمة اليونان في هذه الكلمة النتيجة، دون ذكر السبب الرئيس الذي أدّى إلى إفلاس حكومة اليونان. رغم أنه لمح في كلام آخر عن السبب وهو الفساد.

بعد انهيار الاقتصاد اليوناني، ذهب المراقبون إلى تصوير المشكلة بوصفها ثقافية: انعدام المثابرة والانضباط، بينما ذهب مراقبون أكثر خبرة ومنهم فوكوياما إلى اعتبار أن الانقسام الحقيقي بين اليونان ومعها دول على شفير الهاوية الاقتصادية، وبين تلك الدول التي تتمتع باقتصاد قوي جدا كألمانيا وهولندا واسكندينافيا، هو انقسام ليس ثقافيا بل بين أوروبا الزبائنية وغير الزبائنية.
 

تكمن في جذور مشكلة اليونان حقيقة أن البلد استخدم التوظيف في القطاع العام مصدرا للمحسوبية السياسية، مما أدى إلى خدمات عامة متضخمة ومترهلة وتفتقد الكفاءة، فضلا عن عجز متفاقم في الميزانية، بينما تتمتع ألمانيا على سبيل المثال ببيروقراطية مستقلة حديثة مستندة إلى الجدارة والأهلية… الأحزاب السياسية في ألمانيا، الذي يُعتبر اقتصادها من أقوى اقتصادات العالم، تعتمد على الأجندات البرامجية، ولم تكن الزبائنية قط مصدر قوتها الانتخابية، وهذا ما نقتقده في لبنان.. على سبيل المثال تعتمد حركة أمل على التوظيف العام كوسيلة لحشد الأصوات، بينما اعتمد تيار المستقبل على التوظيف الخاص، وحزب الله على خطاب شعبوي طائفي وتيار الوطني الحر والقوات على الكاريزما التقليدية.. بينما لم يلجأ أحد الأحزاب إلى وضع برنامج أو خارطة عمل اقتصادية لانتشال البلد من مستنقع الإفلاس.

إذا كانت حكومة لبنان جادّة في تعاملها مع المشكلة، فعليها البدء في التفكير ببناء بيروقراطية تكنوقراطية حديثة تعتمد على دعامة الجدارة والأهلية والكفاءة التقنية واللاشخصانية.

ما هو السبب الذي يؤدي إلى اعتماد الزبائنية والمحسوبية في النظام السياسي، والذي يؤثر على جودة الحكومة؟ غياب المحاسبة. الأنظمة السياسية الخاضعة للمحاسبة تمتلك آليات تصحيح ذاتي لمنع الانحطاط ومكافحة الفساد: إذا ضعف أداء الحكومات أو استولت نخب فاسدة على الدولة، يمكن لغير النخب التصويت ضدها وطردها من الحكم. لم يعهد لبنان تلك الخطوة من حكومة ما، ومعظم الحكومات التي قدّمت استقالاتها كان بسبب سياسي، بعيدا جداً عن سبب فشل برنامجها الاقتصادي.

الزبائنية التي تعتمدها الأحزاب في لبنان، هي تسهيلات يقدمها الراعي إلى العميل مقابل ولائه ودعمه السياسي. في نظام لبنان الزبائني، يقدم السياسيون مكاسب فردية للأنصار السياسيين وحدهم مقابل أصواتهم. يمكن لهذه المكاسب والفوائد أن تشمل وظائف في القطاع العام، وصلت إلى تعيين قضاة، أو دفعات نقدية أو خدمات سياسية.

الفشل الآخر الذي من خلاله تعتمد الأحزاب على المحسوبية هو سلوك الجماهير في لبنان، إذ تعاني ضعفا في التنظيم لأنها تفشل في فهم مصالحها فهما صحيحاً أو أن الخطاب الشعبوي الطائفي يتملك تفكيرها، هذا ما أوصل النظام السياسي في لبنان إلى الانحطاط، وبالتالي إلى مستويات من الفساد قد تكون الأعلى في العالم، الجماهير في لبنان منقسمة، عاجزة عن إيجاد هوية وطنية مشتركة تطغى على الارتباطات الأخرى بالطائفة أو المذهب. الهوية المشتركة هي الدعامة الأولى في بناء النظام السياسي، الذي يفتقده لبنان.

ما هو الحل؟ عدم وجود بيروقراطية تكنوقراطية، على مستوى مرتفع من الكفاءة والفاعلية، مستقلة بحد ذاتها، بعيدة عن التجاذبات الطائفية حسنة التدريب والإعداد أدى إلى سوء توجيه التنمية الاقتصادية. وبمجيء تلك النخبة التكنوقراطية مستقلة عن الأحزاب التقليدية، من الممكن جداً أن يعاد للنظام السياسي حيويته، وبالتالي سيُوجه الاقتصاد بعيداً عن التجاذبات الطائفية، وسيُسد باب الهدر والفساد. وكجميع الأنظمة السياسية القوية، يجب أن يكون للمُكون القضائي استقلاليته، ومع تمكين حكم القانون، وهو العامل حاسم الأهمية للتطور الاقتصادي، والحدّ من انتشار السلاح غير الشرعي واختفاء البؤر الخارجة عن سيطرة الأجهزة الأمنية وعودة قرار السلم والحرب إلى الدولة حصراً، ووقف الخطابات المعادية للدول الراعية للاستثمارات يؤدي إلى عودة ثقة المستثمر، ووقف المحسوبية والزبائنية والفساد والهدر.

إذا كانت حكومة لبنان جادّة في تعاملها مع المشكلة، فعليها البدء في التفكير ببناء بيروقراطية تكنوقراطية حديثة تعتمد على دعامة الجدارة والأهلية والكفاءة التقنية واللاشخصانية. وباختفاء المشاكل التي استعرضنا البعض منها، فإن لبنان باستطاعته أن يزيح عن خطى اليونان، وينجو من مأزق الانهيار الاقتصادي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.