شعار قسم مدونات

عندما أجاب بيغوفيتش عن سؤالي الأصعب

blogs - ali ezzat
منذ عامين أو يزيد، بدأت قراءتي له، وكأنني مقبلٌ على بحر لم ألتقِ بمياهه منذ أمدٍ بعيد، شَمّرت عن قدميّ، وخَطَوْتُ مهلاً أقابل تدافع أمواجه، لِأُبحر طوعاً في غمار أسلوبه دون أن أدري، وفتحت كتابه الأول لديّْ.. إنه "بيغوفيتش"، قرأت أول فقرة في الكتاب، التالية، ثم التي تليها! ظننت أني أعرفه، حدثني كإنسان يبث تجربة تأملية فريدة لعقل فريد، وبينما يحدثني، نمت تلك الفكرة العتيقة التي لم تنضج يوما، اعتادت هذه أن تجول في عقلي دون تكوّنٍ ناضجٍ يستحث مَلَكة التعبير البشري لدي ولو بجملة واحدة! فما امتلك لساني سطوة التعبير عنها حتى حينها.

حين قرأت له كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" صيغت الفكرة في سؤال واحد: كيف كانت اللحظة الفارقة، لحظة الالتفات الأولى نحو الإيمان في عمر البشر؟! الإيمان.. ذلك الضوء الذي أضاء البصر.. قوياً، اختلف في نفاذه ليأتي من الداخل.. نافذاً عبر شرّاعات الروح.. حتى تكون البصيرة. من حيث التمهيد، فقد أدرك الإنسان فى العصر البدائي وجوده، وهنا أدرك ضرورة الحفاظ على بقائه.. فانحصرت حاجته في تأمين الغذاء والتكاثر الذي يؤمّن استمرارية النوع الذي يقف دونه الموت، متحدياً بِسُفورٍ لا محدود نظراً للعوز المعرفي الكبير، يصحب تلك الحالة صراعٌ متواصل مع الطبيعة وصيدٌ محفوف بالمخاطر في ذلك العصر الذي لم ينأى فيه الإنسان عن المرحلة الحيوانية بكثير. وهنا، ما الذي يدفع الإنسان رغم افتقاره لتطوير مستوى تلبية متطلباته المادية أن يبحث عما وراء محيطه، وأن يتأمل اللامرئي ويؤمن بالآخر اللامحسوس؟! ما هي نقطة التحول الميتافيزيقية في حياة الإنسان التي تجعله يرنو للتَطَلُّعِ نحو ما هو مجهول وتقديم القرابين له أوالتطلع لحياة ما بعد الحياة.. ما السر في ذلك؟!

الوسيط الروحي بين العالم المادي وعالم القوى الخفية يوهم الجماعة بأحداث خوارق بطرق خفية متصلا بالأسلاف عبر شعائر وطقوس تعتمد أدوات خاصة لا يمتلكها العامة بل يحتكرها وحده.

إن الإنسان البدائي.. عندما لاحظَ في صراعه مع الطبيعة ومع الآخر أن الأمر ينتهي به مهما كانت قوته إلى الفناء، افترض وجود كيانات مخالفة للمادة:  قوى ما وراء الطبيعة قائمة الذات، فكوّن العقل البشري البدائي تصورات لقوى ما ورائية من الطبيعة ذاتها، لأنه رأى أن أنفاس الميت تخمد أو يكف دمه عن السيلان أو يتوقف قلبه عن الخفقان، ثم إن طيف الموتى يزوره أثناء نومه كما يزوره طيف الحيوان الذي يعاشره، هذه الملاحظات جعلته يفترض وجود الروح، ككيان لا مادي مقابل للجسد الذي يتحلل مع الموت، ولا يبقى بعد ذلك سوى أشياء لا مرئية ولا مادية تتجاوز الزمان والمكان.

وانطلاقا من مسألة الموت هذه، ولأنه يعتقد أن هذه القوى المؤثرة به عظيمة.. كان شديد الحذر منها وحاول حماية نفسه وتجنبها، وهذا أدى إلى ظهور "التابو"، والتابو هو حسب تعريف التحليل النفسي "فعل محظور يوجد إليه ميل في اللاشعور" كما يعرفه "فونت" بأنه أقدم مجموعة قوانين غير مكتوبة لدى البشرية.. وأقدم من الآلهة الموضوعة والأديان.. لا يُعرف لها مصدر.. فكان التابو ممثلاً لما يُمنع المساس به كـ"الطوطم" الذي يمثل أي كيان يؤدي دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يقدَّس باعتباره المؤسس أو الحامي، ثم يعتبر أي مساس بالطوطم أو الحدود الروحية الجمعية إثما وتدنيسا يستوجب تدخل الساحر، حيث كان يعتقد أن خلاص الإنسان المصاب بتأثير التابو هو السحر فقط.

هذا الوسيط الروحي بين العالم المادي وعالم القوى الخفية يوهم الجماعة بأحداث خوارق بطرق خفية متصلا بالأسلاف عبر شعائر وطقوس تعتمد أدوات خاصة لا يمتلكها العامة بل يحتكرها وحده فيقوم بالتنبؤ ويدعي الوقوف على أسرار الغيب ويشفي المرضى ويدعي تعطيل بعض الظواهر الطبيعية والقوانين الأزلية. يقول "شفيق مقار" في كتابه "منشأ السحر والدين": "إن الإنسان القديم حاول النفاذ إلى الغوامض التي واجهته لدرء شر قوى خفية وفوق طبيعية تتربص به ثم حاول استرضاءها ومنع أذاها بضمِّها إلى صفِّه لتكون عوناً له على تأمين بقائه في عالم غير محايد بل عدائي إلى أبعد الحدود".

وهذا يعني أن الدين لم يكن فطريا بقدر ما كان نوعا من أنواع التفاسير التي ركن إليها العقل البشري بعد أن أنهكه البحث، ففي المراحل الحجرية الأولى ظل الإنسان أسير المحيط المادي الذي عجز عن فهمه وتفسيره واستيعابه، فوقف أمام قوى الطبيعة المحيطة به خائفا وعاجزا عن السيطرة عليها، وإخضاعها لسلطته، فاستخدم وعيه لإيجاد التفسيرات والتعليلات التي تحيط بالقوى الطبيعية فنسب إلى كل جانب من جوانبها المؤثرة في حياته قوى لا مرئية ما وراء طبيعية، واعتقَدَ أن هذه القوى الخفية تستقر في الأشياء والكائنات المحيطة به ثم في السماء كرمز للعلو والرِفعة عن الأرض وما تحتويه من معاناة لا تنتهي.

أول من أجابني بوضوح "بيغوفيتش".. كوَّنَ سؤالي قبل أن يكوِّنُ إجابته، ودفعني نحو بحثي بعد عامين أو يزيد حول حديثه وإجابته، حيث عبَّرَ عن تلك اللحظة بـ "الدوار الميتافيزيقي" وقال: "بأنه وفي تلك اللحظة شعر الإنسان بحاجته إلى عالم آخر يحتاج إلى التواصل معه والتعبير عنه"، شعر بضعفه في الكون.. وأن هناك من هو خفي ويملك قوى أكبر، هنا شعر أيضا أن كل ظاهرة خفية التفسير؛ يفوق سبيل تحليلها مدى إدراكه.. تعود إلى ذلك المجهول الخفي.. وبدأ يجسِّده في عقله وحياته بما يتوافق مع مخاوفه ورؤيته وإدراكه المحدود.. وبكل ما أوتي من تصور وتفكر، وحينها فقط.. انتقل الإنسان من الطبيعة إلى الإنسانية بظهور الثنائية بين الخالق والمخلوق، ولو على نحو من التدريج كما أشار.. أو كما أجابني بيغوفيتش.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إعلان