تقديم:
تبدأ رحلة العائلة مع الطفل المصاب بالتوحد بخطوات في الظلام، فهو اضطراب بطيف واسع من الشديد إلى البسيط، لكن الظلام يتبدد عندما تؤمن بأن الله أهداك أجمل هدية وأن التعامل معها برضى ومحبة هو ما يجعل الحياة أجمل.
إميلي توثق في مدونات الجزيرة رحلتها مع طفلها جايسن، وهي رحلة تضيء طريق كثير من العائلات، مدونة تجمع بين الخبرة الذاتية الشخصية والموضوعية العلمية. خصوصا أنها تعاملت مع خبرات عالمية من لندن إلى سانت ياجو في أميركا.
قد تسهم هذه المدونة في إطلاق تدوينات أخرى لمن يمرون بتجارب مماثلة، فرواية التجارب تسهم في التوعية ومساعدة الأطفال وعوائلهم
التدوينة:
لكل منا علاقته الخاصة بالله سبحانه، قد تكون درست في نفس الكتاب وكبرت في نفس المنزل مع إخوتك وربيت على نفس القيَم الدينية مع أهلك وفي مجتمعك، ولكن في اللحظة التي تناجي الله فيها، أنت تناجي إلهك الخاص، تناجي الله الكامن في وجدانك الساعي إلى السلام، تناجي الله الذي شكّلته في خزائن قلبك وحدك.
عندما أنظر الآن إلى تلك المرحلة أعتقد أنه كان انهياراً عصبياً برداء ديني مخيف وعنيف لم أظن وقتها أني سأنجو منه وإيماني سالمين. |
قد يكون الله موجوداً في حياتك صلاةً وصوماً وممارسة، وقد يغيب، إنها علاقة خاصة جداً لا يصدُق فيها المرء إلا في مواجهة الرحمن يوم الدين. لكن هل جرّبت أن يكون لك ولد من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ أن تنتظر تسعة أشهر لتحمل بين ذراعيك ثمرة أثمن علاقة في حياتك وتجدها فجأة ثمرةً غير متوقعة، وهذا أقل وصف.. إنها إحدى تلك اللحظات التي يحضر فيها الله بكل شكل عرفته فيه أمامك.
"لماذا؟ لماذا أنا؟ ماذا فعلت لأستحق ذلك؟" هذه الأسئلة ستزورك بإلحاح مرير عندما تعلم بحجم التحدي الذي ينتظرك مع "اختلاف" فلذة كبدك عن الباقين. ستخاف كثيراً وتسأل نفسك: هل هذه الأسئلة إثم؟ هل مساءلة الله في ما قدّر لعبده كفر؟ أم أنها أسئلة مشروعة يختبر فيها المؤمن إيمانه كما يختبر بالنار الذهب؟ أنا لا أتحدث هنا عن الصالحين الراضين بقضاء الله منذ الثانية الأولى، طوبى لهم، المجد لهم. أنا أتحدث عن السواد الأعظم منا نحن الضعفاء في لحظة التجربة التي تهزّ كيانهم وعالمهم.
يوم تأكدت أن "جايسن"، ابني، مصاب باضطراب التوحد جزعت. غار قلبي في صدري حتى ظننته ينقبض ويطرق في أسفل أمعائي. "يا إلهي".. "يا إلهي"، رددت هذه الجملة في رأسي كالمحمومة من دون أن أنبس بحرف واحد. يا إلهي لمَ عليَّ أن أختبر هذا الألم وهذه التجربة المرّة؟ مرّت في رأسي صور صديقاتي وأخواتي وكل من عرفت وبأيديهم أطفال أصحّاء.. وأنا لا! "طفلي ليس صحيحاً". بعد صدمة المعرفة باضطراب ولدي، بعد هول المفاجأة بحقيقة أن التوحّد جاء ليبقى ولن يرحل قريباً كأي مرض آخر، بعد رعب الكلمات المتدفقة من فم الأطباء وتلعثم كل من عرفني من أهل وأصدقاء، بقي لي جهة واحدة لم أسمع رأيها بعد. بقي لي الله.
أذكر الأيام الأولى وكيف مرّت علاقتي بالله باختبارات عصيبة تلامس القعر كفراً حيناً وتماثل القداسة ابتهالاً حيناً آخر وبين الحالة الأولى والثانية دقائق فقط. سألت الله سبحانه إن كنت أخطأت في حق أحد ما، راجعت علاقاتي جميعها، حتى علاقتي بالعصافير والقطط والذباب.. أردت أن أعرف بذنب من ألاقي هذا الوجع. ثم رجعت إلى كل سيَر الصالحين والإبتلاء والألم المطهّر، قرأت القرآن مرّات ولست مسلمة، قرأت الإنجيل مرّات وشعرت بالغربة أكثر، حتى جارتي اليهودية جلست مرة تقرأ صلوات عبرية فوق رأسي لأهدأ من نوبة بكاء هستيري. فتشت، فتشت عن إله المسلمين وعن إله النصارى وعن إله اليهود وكانت أكثر لحظات قلبي اضطراباً.
في خضم موجة شكوكي تلك، سألت والد "جايسن" مرة ماذا يعتقد وإن كان مثلي راجع ماضيه، وماذا فعل ليغضب الله منه؟ كان أكثر هدوءاً مني في كل شيء، ومنذ علمنا باضطراب "جايسن" زاد هدوءه وازددت أنا تخبطاً. ثم أصبحت أكثر إصراراً على معرفة ماذا يعتقد، كنت ربما أبحث عن انفجار بيننا ليهدّ هذا الهدوء الثقيل، أذكر أنه أمسكني من يدي وقال لي أجلسي لنتكلم عن الله. صمتت وجلست وسمعت.
قال لي يومها، "إن الله موجود وأظنك متأكدة من وجوده وإلا لما كنت تعاتبينه بهذه الشراسة.. الرب قادر واختارنا لمهمّة، وأنا يوم اخترتك من بين النساء اخترتك ذكية صلبة مخلصة لكل ما تؤمنين به. افهمي ما أقول، أنا اليوم أحتاجك أكثر من أي وقت كان أن تكوني ذكية وصلبة ومخلصة لابننا". إذاً زوجي يرى تجربتنا المريعة هذه مهمّة ويرى أن الله قادر ونحن به قادرون. كان هذا الحديث من المرات النادرة التي فاتحت فيها والد ابني بحجم التخبط والتزعزع النفسي الذي أعيشه منذ علمت بحالة جايسن. عندما أنظر الآن إلى تلك المرحلة أعتقد أنه كان انهياراً عصبياً برداء ديني مخيف وعنيف لم أظن وقتها أني سأنجو منه وإيماني سالمين.
إن الله موجود عند كل البشر، له تسميات كثيرة. لكني، والحمد له، أسمّيه الرحمن الرحيم خالق ما يرى وما لا يرى، أسمّيه فوق رأس ابني وأحمده وأشكره وأنقل النور بيدي لمن يحتاجه بمشيئة الرب |
في سياق تلك الفترة أيضاً، جلست مرّة في بيت أهلي الصيفي على الشرفة مع والدي، تمدّدت وألقيت برأسي في حضنه كما أفعل كلما عجزت. والدي رجل مؤمن جداً وورع ويسعى لتطبيق الخير والرحمة في كل مناسبة، كانت جرأة عظيمة مني أن أجرّه لمساءلة الله في اختياري لاختبار الأمومة المعذبة، لكني سألته. استمع لكل ما تدفق من فمي ثم قال ما سأحمله في قلبي إلى الأبد: "يا ابنتي أنت في رحمة عظيمة من الله ولولا يده التي امتدت في اللحظة المناسبة لكان ابتلاؤك أعظم. الله اختارك لأنك أهلٌ لذلك، احملي وسام الشرف هذا ودعيني أرى الله في ما اختارك له قبل أن أموت."
مرّت حوالي أربع سنوات على ذلك الحديث مع والدي، ومرّت الكثير من التجارب المضيئة في مسيرة ابني مقابل كل لحظة يأس. اليوم وبكل ثقة أقول: إن الله موجود، كلٌ يراه كما يشاء وكما يعرف وكما يفقه.
سافرت العالم كله من قارة لقارة ووجدت أن الله موجود عند كل البشر، يسمونه الطاقة، يسمونه البيولوجيا، يسمونه الإنسانية، يسمونه الإرادة.. وله تسميات أخرى كثيرة. لكني، والحمد له، أسمّيه الرحمن الرحيم خالق ما يرى وما لا يرى، أسمّيه فوق رأس ابني وأحمده وأشكره وأنقل النور بيدي لمن يحتاجه بمشيئة الرب الذي كما قال والدي عنه: يده امتدت في اللحظة المناسبة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.