بِنصفِ معرفةٍ هذهِ المرة، بِجَسدٍ وَجَدَ المرضُ فيه مكاناً، وأعينٍ ذابلةٍ عَرف الأَلَمُ لها طريقاً، لا تَستطيع النُهوضَ مبادرةً للعناقِ كما مضى، ولا الوقوفَ على الرِجلينِ دقائِقَ انتظار، تَرتَسم على الوجه ابتسامَةٌ تختصر الحنينَ كله رغم التعب، تَفتحُ يديها مبادرةً بالاحتضانِ رغم الوَجَع، تُرَّحِب بلسان ثقيلٍ ولدي، لِيردُ القلب بحزنٍ أثقلَ أُمي! تختصرُ نظراتُ العينينِ بيني وبينها طولَ المسافة، وتحكي تَفاصيلَ السَنوات، وتطوي سِجل الذكريات بدهشة، تاركةً لَكُلٍّ منا تأمل الآخر، حلوه ومره، تعبه وراحته. تَرمُقُني بأمل المحب، وأرقبها بندم المتحسر. كَلماتٌ قليلةٌ تدور بيننا، ساعاتٌ تَمرُ كالثواني، إنَّها المرة الأولى التي تُخطئُ اسمي ذكراً، إنَّها تعرفني ولا تعرفني!
أُمازحها، مُصرَّاً عليها أنْ تَأكُل من يدي قِطعة حلوى كانت الأَخيرة، تتناول نصفها وكأنَّها تقول: على سريرِ الموت ما زالت طَلباتُك مُستجابة، في الساعاتِ الفارقة ما زلت مدللاً غالياً، في اللحظاتِ الأخيرة ما زِلتُ أحملُ قلب أُمٍ حنون، يَعْرِفك جيداً، أخطأت باسمكَ أم لم أُخطئ! خمسُ ساعاتٍ تَفصِلُ بين دقائق اللقاء الأولى ومرحلة الوجع المُرَّكز، الآن، لم تَعد قادرةً على الكلام، إلاَّ بالحمد أحياناً، كيف لا وقد كانت تُحصي جروح اليدين، وخدوش الكفين، مبتسمةً حامدةً. هنا عَرَفتُ كيف "تتربط اليدين"، عندما تَجِدُ قلبك أمامكَ وتَنتَظِرُ الفرج، حينما ترى ألَمَ الدنيا كُلَّه تحت ناظرَيك وتعجزُ عن الفِعل، حينما يضيعُ الحنانُ كله ويختفي لحظة تلو أخرى وتكتفي بالتفرج! ألَم أقل لكم إنَّه الموت مرتين؟!
لطالما كنت موقناً أنَّ الموت قدرٌ محتوم، لا بُدَّ وأن يأتي لحظةً ما، لكنني لم أَكُن مدركاً لتسارع لحظته الخاطفة، إنَّه باختصار ما يجعلُ الألم ألَمين، والحزنَ ضعفين، والموت مرتين! |
بِضعةُ أيامٍ أُخَرْ تفتحُ العين فيهما وتغمضها دون كلام، هنا يبدأ التوهان، يا الله، لم تَعُد تجيبني، يا الله، باتت لا تعرفني أبداً، يا الله تنظر إلي ببرود. فجأةً تنطق اسم ابني تارة، وتارةً أخته، يا الله، إنَّها تُريد أن تقول لي، أَجُنِنت؟ ما زِلت أعرفُ من هُو منك، فكيف بك! ثلاثةُ أيَّامٍ أخرى، يُشير الطبيب فيها لي بِعدم تحسن الحالة، هذه المرةَ يزداد التواصُل صعوبةً، ويشتّدُ الألم ويتضاعف الوَجع وتنمو الحيرة، أُحاول للمرة الأخيرة هامساً في إذنها، إنَّه أنا، تشُدُ علي يدي، دون كلام هذهِ المرَّة تقول لي ما زال قلبي يَعرِفك يقيناً، ساعاتٌ قليلة تمضي على تأكيد المعرفةِ ذاك، لتغفو العينين في هدوءٍ متوجهةً نحو عالمٍ آخر!
من ثلاجةِ الموتى صباحاً أتناول قلبي، يُوضَعُ على مُغتسلٍ في البيت، في المكان الذي كانَ شاهداً على سنوات التعَّب والشقاء، يُجَّهز، يُلقى عليه نظرةُ الوداع الأَخيرة، يُحملُ للمَسجِد فيصلى عليه، هلْ سبق وأن وضعتَ قلبك أمامك فصلَيتَ عليه؟! يُحملُ إلى المقبرة بعدها وهُنا تُختَصر الحكاية، من كانت سبباً في منحي الحياة أترُكُها للموت، أَفُكُّ عُقدَ الكفن واحدةً تلو أُخرى، مُقنعاً نفسي بدوران الدنيا للتَّصبُر، أُغادِرُ وقد دفنت قلبي وخَرَجت، ألم أقُل لكم إنَّه الموتُ مرتين؟! نعم، لطالما كنت موقناً أنَّ الموت قدرٌ محتوم، لا بُدَّ وأن يأتي لحظةً ما، لكنني لم أَكُن مدركاً لتسارع لحظيته الخاطفة، وغيابِ مُقدماته الممهلة، لاستدراك لحظاتٍ جميلةٍ أُخرى، أو اختطافِ ابتسامةٍ كاملة، أو انتزاعِ ذكرى، إنَّه باختصار ما يجعلُ الألم ألَمين، والحزنَ ضعفين، والموت مرتين!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.