شعار قسم مدونات

أطفال الشوارع ساسة الأمة

blogs - أطفال فقراء
في الوقت الذي يشهد العالم تطورا وازدهارا لمختلف ظروف الحياة الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية، ومن تطور في مختلف المجالات المعيشية والترفيهية، إلا أن هناك شريحة تعيش الفقر والتشرد، حتى إنها ليست سواءً مع الفئات الأخرى، رغم كل ما نراه من ترف، وهناك ملايين من أطفال الشوارع يعيشون منعزلين ومتشردين مخذولين يندمجون في عصابات ليبنوا لأنفسهم أسرا يحتمون إليها فتلوثهم سموم المخدرات والجريمة، ويصبح الشارع رمزا لمحنتهم ويحل محل المدرسة والبيت.

وظاهرة أطفال الشوارع لا تعرف مسلما أو كافرا، بل يخاطبها العقل والقلب معا لأنها تحتاج إلى قياس منطقي ونظر مصلحي مرتبط بإرث عام لملايين البشر ألا وهو "الشارع".. لسنا ننكر أننا فحصنا المجتمعات ورأينا وحللنا، فهزت أكتافنا ما نطفر به من هذه الظاهرة كأنها فضيحة تكشف إيغالنا في إهمال أطفالنا ولسنا نقول ذلك ظنا وتخمينا، بل هذا هو الذي يحدث، وأننا قد ننسى البديهيات حتى لنكاد نجهل الأسباب التي أدت بهم إلى الشارع في زحمة الضعف الاقتصادي ونقص الإمكانات والموارد وتفاقم المشاكل الاجتماعية.

إن أطفال الشوارع ليقرؤون في حروف المجتمع معنى التسرب المدرسي والانحراف الخلقي، حتى إنهم يستعجلون في قذف أنفسهم في هجمة خاطفة، هذا إن لم تغتلهم رصاصة السلوكيات والممارسات العفوية الناجمة عن الغياب الكلي للعقل وسيطرة الشخصية السيكوباتية عليهم، أي الشخصية ضعيفة الضمير.
فتتواصل المعركة بطريقتين، إما تُربيهم المواقف آنذاك أو يستكينوا معها للفاجر.

يجب أن يكون لدى أطفال الشوارع ثقة في من سيقرأ لهم قصة حياتهم ويكتب لهم خطواتهم، من خلال إعادة تعليمهم وتلقينهم فن التكيف المجتمعي لإعادة بناء قدراتهم العقلية وإدماج أنفسهم.

فكيف تتربى هذه الفئات بدون أي وسائل تربوية؟ هل هم أهل لإدماجهم في مرحلة الانتماء الملتزم والسير المنضبط في المجتمع؟ وكيف تضبط بوصلة قلوبهم لعدم الالتفاف حول المسارب الخلفية للانحراف؟ إنها حقيقة مؤلمة أن تعلمهم الشوارع حيازة فرص جديدة للانحراف وإذا حازوها عبثوا فسادا وسعوا لحيازة المزيد مما حبسته ضلوعهم، لأن التوغل في أزقة الشوارع والانسياب المطلق فيها يفتح المجال لقطع شوط أطول في استئثار طبائع سلبية.

والحرمان القاسي الذي يعاني منه أطفال الشوارع والاعتداء الوحشي المتواصل على حقوقهم، هو سبب مباشر في تفاقم الوضع وتأزمه، وهذا لا يحول دون إحراز إنجاز جديد من خلال الانتهاكات الجسيمة المستمرة، ولا يوجد من هو قادر على إيقاف هذا المصير الجهنمي بمن في ذلك المتشدقين به، والذين يمارسون الإصلاح في حفرة حفروها لا تتسع لهم لتتسع لشعوبهم، وكلها تنم عن نظرة ازدرائية عنصرية تجاه هذه الفئة والإنسان الفرد فيها.

كيف تكون ثقافة حقوق الإنسان؟ وكيف لها أن تتصدر مقدمة القضايا؟ 

الطفل قلب هذه الثقافة وهو جدير بالحقوق أكثر من غيره، لكن للأسف ماهي إلا ثقافة رومانسية ساذجة لم تكن قاعدة للحق بل مثلت الحد الفاصل للمزايدات في سياق الاعتراف المقنن بحقوق معينة قابلة للإنكار.. وليس المقصود بها إظهار كل منظومة حقوق إنما إلقاء الضوء على حقوق الطفل من منظور تطبيقي يرتبط ارتباطا عميقا بمصالحه وجوهر الأزمة.

في سن يجب أن ننظر فيه إلى الطفل كشخص بمميزات عمره، لا يحوي الطاقة والقوة والتجربة والحقيقة للتحكم بالقرار الذي يجعله يخرج من المشاكل والمخاطر، ننظر إليه كشخص يمكنه الاستدراك ومواصلة السير مهما كانت الظروف، وهذا قد يجعل منه شخصية متمردة ومضادة للمجتمع، قلق الأفكار تغرقه بعض العادات في الجنس والتردي الأخلاقي الملهي، ليرى في الشارع أشياء تتماشى مع مصالحه في تلبية رغباته الجامحة، ويقيس أمور الحياة وفق منطق الضوضاء.

انتهاك المعايير التي يحددها المجتمع هذا يعني نشأة مجرمين صغار جدد يحترفون الإجرام ولا يفقهون في المعايير الدينية والتقليدية من ضعف للوازع الروحي وتفسخ للقيم، فحين يستيقظون في الصباح لا يضمنون من أين تأتيهم الوجبة التالية، وهذا يدفعهم إلى أن يتصرفوا بأنفسهم مهما كان التصرف مروعا ومريبا.. ويغتر بعضهم بكثرة الملتفين حوله ومقاييس الحرية المطلقة، فليس هناك خط حدود مرسوم لها وهذا يخول لهم أن يكونوا مشاريع مرشحة للانحراف.

قضية أطفال الشوارع تريد أصحاب القلوب الذين يتفاعلون معها أولا بأول، فعلى مثلهم ينعقد الرجاء، لا على أصحاب الأصوات المرفوعة الذين لا ينتبهون ذاتيا إلى أن إعانة الطفل هي أن يمسك بأيديهم وجعله يتلمسها قد تفيده أكثر من الشرح المعلن للظاهرة وللواقع الحالي.

نعم، نحن لا نرهبكم ولا نضخم صورة أطفال الشوارع، فهم بشر مثلنا يستبد بهم عالم الإجرام ويغلبهم كيده وتعتريهم الغفلة.. كل من في شارعنا يصلح لأن نستعين به في شعبة من شعب الخير والإصلاح إذا لم يستعبده الزهو وضيق الدربة العملية، فكلها قابلة للنماء إن تكثفت حملات التحسيس وبالأساس تحسيس المجتمع.. والمسلك الصائب أن نشْرع في تربيتهم ونأخذهم على محمل الجد الزائد لتكتمل صياغتهم بعيدا عن مجتمعهم المعقد وحياتهم الصاخبة المتشعبة جدا.. فإن أحدا لو أراد صعود جبل عال وَعرٍ؛ فإنه لا يجازف دون تأمل وتحضير بل يظل مدة يحاول تعيين الطريق، كذلك أمر هؤلاء الأطفال إذ لا بد من إعداد رؤية شاملة لانتشالهم؛ تتدرج من الرعاية نحو تطبيق السياسات الاجتماعية وإلا كانت مجرد قول مشاع.

يجب أن يكون لدى أطفال الشوارع ثقة في من سيقرأ لهم قصة حياتهم ويكتب لهم خطواتهم، من خلال إعادة تعليمهم وتلقينهم فن التكيف المجتمعي لإعادة بناء قدراتهم العقلية وإدماج أنفسهم في المستقبل بعيدا عن الشوارع.. علاوة على ذلك إيجاد تعريف جديد لهويتهم وإعلانها، والتي من شأنها أن تجلب لهم الثقات التي قصروا عن جلبها في الشارع، وحتى لا نتحدث مرة أخرى بعودتهم التي لا يرتضيها العقلاء.

إن التأمل الرزين يبدي أن الخطورة الكبرى تكمن في أن السياسات الاجتماعية المتبعة تنظر لظاهرة أطفال الشوارع من خلال ثقب صغير في جدار قديم، بحيث تبدو لهم الصورة صغيرة فتضيق الحقيقة ويظَن أنها مجرد تهويمات داعية.. إلا أن الضيق الأشد هو البقاء على نفس هذه الإطلالة والتعمية عليها، حيث حان للدولة أن تكون دولة بالمعنى السليم للكلمة، والانطلاق خطوة أكبر للقضاء على الظروف الجبرية لهؤلاء الاطفال.

قضية أطفال الشوارع تريد أصحاب القلوب الذين يتفاعلون معها أولا بأول، فعلى مثلهم ينعقد الرجاء، لا على أصحاب الأصوات المرفوعة الذين لا ينتبهون ذاتيا إلى أن إعانة الطفل هي أن يمسك بأيديهم وجعله يتلمسها قد تفيده أكثر من الشرح المعلن للظاهرة وللواقع الحالي… هؤلاء الأطفال يمثلون الجيل الجديد الذي يحجبه نقصه التربوي عن الأنظار، ولا يحتاج غير نقلة يسيرة وجهد بسيط ليكتمل نصفه الناقص، وعلينا أن لا نغالي في تقدير السلبيات التي يتعرضون لها بسبب توغلهم في الشوارع، وعل وعسى ينجو منها بعضهم ليكونوا ساسة الأمة، فهؤلاء هم الذين سيصبحون رجال المستقبل ونساءه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.