لا يسقط عن أمي واجب الإيفاء بموعد الطبخ المحدد، كما إعلان المؤذن للصلاة تماماً، حتى لو كانت تشعر بملل الروتين، أو عجز بداخلها يستهويها للراحة، وإن حدث التقصير أعلنت عليها الحرب العالمية الأولى والثانية والثالثة وأخرى باردة، لأجل تقاعسها غير المعتاد، فلا يحق لها ذلك فهي الأم ومن غيرها ؟؟ أمي "منيو" الأطعمة التي لا نُجمع عليها في آن واحد لاختلاف أذواقنا، فبعضنا يرغب في تناول المقلوبة، وآخر لا يفضل أكلة الملوخية، وصغيرنا لا يقبل إلا بوجبة البطاطا المقلية كوجبة رئيسة له.
تركنا أمي والجدران وحدهما، تركناها تمسح على رأسها بنفسها وتشكو وجعها صامتة، كل ذلك بعد اعتقادنا جازمين بأن عاطفتها اكتفت من الاهتمام ومن سؤالنا عن أحوالها. |
أمي لا ينطبق عليها الحكم الشرعي "فرض الكفاية" فكل صغيرة وكبيرة هي عليها "فرض عين"، حتى لو حضرت لها كنّة جديدة، ولو أنجبت من الفتيات والأبناء ما يكفيها لسد مآرب البيت. أمي لا يحق لها أن تشعر بالصداع وإن شعرت وأباحت بمشاعرها فهذا لا يهم أحداً البتة، فماذا يعني لو شعرت بصداع في رأسها؟ لا بأس سيذهب لا محالة وإن طال عليها ليالي وأيام.
كما لا يحق لها أن تشعر بالمرض كما يشعر أصحاب العالم الافتراضي حين يسألهم الفيس بوك "بمَ تشعرون؟"، فقط لأنها لو شعرت لن تحال عن كتفيها المسؤوليات الموكلة إليها ولو ليوم واحد فقط. أمي في المقابل عليها أن تربّت على كتف ابنها حين كشف لها عن هزيمته حيال صديقه الذي قصر في حقه لظروف غامضة، وعليها أن تملكَ حكمة بالغة في قبول العريس المتقدم لخطبة ابنتها الجامعية التي لم تنته بعد من دراستها، أو رفضه لإقناع ابنتها بأنه لم يكن "العريس الفرصة" حسب اعتقادها.
كما أن عليها أن تقف وقفة الرجال لتضع النقاط على الحروف إن رسب أحد إخوتي الصغار في امتحاناته الشهرية، لتعلمه درساً قاسيا بكيفية الالتزام بواجباته المدرسية، ولكن لا يحق لها أن ترسب هي في "الكوزات" الإضافية للحياة اليومية. أمي عليها أن تكون على دراية مفصّلة بالمناهج الدراسية القديمة والحديثة وتلك التي في طريقها للتحديث، فعليها أن تفهم في علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا، وأن تخبرَ كذلك أحداث التاريخ بدقة دون تمرير أي حادثة مرور الكرام، ولا يمكنها الجهل في المواد العلمية كالفيزياء والأحياء والكيمياء لتتمكن من الشرح عمليا دون إبداء جهلها، ولا يغفر لها ضعفها بقواعد اللغتين العربية والإنجليزية على حد سواء وإمكانية استخراج مواطن الجمال في الأولى ومواطن اختلاف اللفظ من كلمة لأخرى في الثانية.
ورغم الخبرات المهنية والتعليمية والعاطفية التي تتقنها أمي إلا أنها الشخصية الوحيدة التي نتجرأ على توبيخها إن اخطأت حيالنا، نتجاوز حد طرق الأبواب في وجهها تباعا بعد استنزاف "الأفْ" سراً وجهراً وصراخاً. أمي أيضا هي ذاتها التي خسرت رشاقتها وقت أن احتللنا جميعاً جسدها الضعيف، فكل واحد فينا امتلكه لتسعة اشهر، وفقدت شهيتها حيال الأطعمة التي كانت تبذل مجهوداً كبيراً في إنجازها. ذاتها أمي باتت علاقتنا باردة بها بعد أن قدّمت ولدها والبقية هدية لفتيات أحلامهم، وأصبح كل واحد منهم يحنو على رفيقة دربه، يهذي عليها إن أتعبت جسدها في الأعمال المنزلية، يوبخها أن أحرقت يدها مخطئة، يخفف عن كاهلها فيض المسؤوليات ويسمح لها بقسط من الراحة، وأخيراً يخبرها بأن تكون ضيفة أنيقة لطيفة في بيت أمه، أمّا أمي فعليها أن تقوم بواجب الضيافة وحفاوة الاستقبال اللائق بضيوف حبل وريدها.
أمي عليها أن تكون على دراية مفصّلة بالمناهج الدراسية القديمة والحديثة وتلك التي في طريقها للتحديث، فعليها أن تفهم في علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا! |
وحين كبرنا وتزوجنا جميعاً اعتقدنا بأننا أولى الناس لإشباع رغباتنا وذواتنا في اللجوء إلى صدر حنون يحتوينا، مسحنا على قلوب أزواجنا الموجوعين من حياة لم يمضِ عليها سوى عقدين أو أكثر بقليل أو حتى أقل! تركنا أمي والجدران وحدهما، تركناها تمسح على رأسها بنفسها وتشكو وجعها صامتة، كل ذلك بعد اعتقادنا جازمين بأن عاطفتها اكتفت من الاهتمام ومن السؤال عن أحوالها بالتفصيل، وذلك بعد أن أوردتنا من حبها ما يكفينا، وبعد أن أشبعتنا من فيض شغفها ما يحيينا، وبعد أن أحاطت قلوبنا بخوفها علينا مما يؤذينا.
أتحدث عن أمي وأمك وأمهات المسلمين، أتحدث عن واقع حقيقي يخطفنا من أصولنا إلى قلة أدبنا اللا متناهي مع أنفسنا، منذ كنا صغاراً لا نفقه شيئا غير أننا بحاجة لسندويشات أمي المجهزة بالزيت والزعتر وأخرى بالبيض، حتى كبرت مطالبنا إلى بيت مستقر بعيداً عن أحضان أمي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.