شعار قسم مدونات

ما وراء أزمة السير

Motorists stuck in a traffic jam on the outskirts of Cairo, Egypt, September 10, 2015. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh
في هذه الأيام أخرج إلى عملي في الصباح الباكر جداً كي لا أعلق في أزمة السير الخانقة. وحيث أن آذان الفجر يُرفع في وقتٍ متأخر، أصلّي فرضي، أتناول إفطاري قبل الشروق مثل العجائز تماماً ثم أغادر إلى العمل. ولكن حين أتأخر عن موعدي بضع دقائق، لكّ أن ترى العجب العجاب في أزمة الصباح. معظم الموظفين في بلادي يخرجون من منازلهم قبل تناول وجبة الإفطار أو حتى شرب القهوة التي تحسّن أمزجتهم، فتراهم يقودون مركباتهم بتجهّم شديد وينظرون إليكَ بحقد وكأنّكَ أنتَ الذي أيقظتهم من نومهم، وأجبرتهم على الخروج للعمل! 

ويبدأ مسلسل الأزمة اليومي، الذي أشعر أنّ الله يعاقبني على ذنبٍ ارتكبته إن تأخّرتُ عن موعدي لأشاهدَ البثّ المباشر من حلقة ذلكَ اليوم. نبدأ بمن يصعد على الطريق الترابية الجانبية للشارع ليتجاوز عشرات بل مئات السيارات ليصبح في المقدمة بلا أدنى مقدار من الأدب أو الذوق للاعتذار، وكأنّه هو الوحيد الذي تأخر عن عمله وأنّ جميع البشر في السيارات الأخرى لم يخرجوا من منازلهم إلا للتسلية وتمضية الوقت.

لا يهمّني حصولي على مخالفة مرورية لتجاوز الحدّ الأقصى للسرعة أو عدم ربط حزام الأمان بقدر حرصي على احترام الآخرين وعدم التعدّي على حقِّ الطريق

ومثله تماماً مسار الطوارئ، وهو المسار الأصفر المخصّص لاستخدامه أوقات الطوارئ فقط، لحالات الإسعاف أو سيارات الشرطة أو أي حالة طارئة أخرى، والذي يجب أن يبقى خالياً تماماً من السيارات لسهولة تنقّل الحالات الحرجة من خلاله. في بلادي يتم استخدام هذا المسار للأشخاص الذين يشعرون أنّ الله فضّلهم على غيرهم وأنّهم أكبر مقاماً وقدراً ويحق لهم مالا يحق لغيرهم، يحق لهم سلك هذا المسار لخلوّه من السيارات، ويستطيعون من خلاله اختصار المسافة والزمن، لأنّهم كما أسلفت أفضل من غيرهم.

إلى جانب عدم احترامه للقانون، وعدم احترامه لأصحاب المركبات الأخرى التي كانت تقف معه في الطابور سواء السيارة الأخيرة التي تجاوزها أو تلك التي في المقدّمة والتي ظهر أمامها فجأة بدون إشارة أو استئذان، فإلى جانب ذلك ترى هذا الشخص غير المسؤول يعطّل سيارة الإسعاف التي كان من المفترض أن تسير بكل سهولة ويسر في هذا الطريق المخصص لأمثالها فقط، وربّما يتسبّب استهتار هذا الشخص بفقدان المريض لحياته على الطريق. 

وعلى ذكر سيارة الإسعاف، نرى البعض ممن يستغل انسانية أصحاب السيارات التي تفسح المجال لسيارة الإسعاف للمرور من بين الزحام – وهو أمرٌ واجب عليهم- ويلحق بها كي "يتخطّى الرقاب" ويصل إلى نقطة أقرب من موقعه الحالي، وللأسف الشديد أنها في الغالب لا تكون سيارة واحدة فقط، بل واحدة تجرّ الأخرى ليكوّنوا صفاً من السيارات ويصبح المشهد مماثلاً لزفة العرسان.

ثمّ نأتي إلى بوق السيارة، وهو أكثر ما يسبّب لي الإزعاج، بل وأحياناً القهر الشديد من مستخدميه وخصوصاً في الصباح، حيث يحتاج الفرد منّا إلى لحظات تأمّل صامتة تساعده على صفاء ذهنه لشحذ طاقته لبقية اليوم. عندما يكون الطريق مقفلاً أمامك بسبب كثرة المركبات وضيق الطريق والعديد من الإشارات الضوئية، وتعلم أنّ كل مركبة أمامك لا تملك من أمرها شيئاً إلا الانتظار المملّ لكَ ولغيرك، لماذا كل هذا الضجيج باستخدام البوق! التلوّث الضوضائي الذي تسبّبه لغيرك قد يؤدي إلى انزعاجه بشكل رهيب قد لا تشعر به أنت، وقد يرفع ضغطه، بل وقد يعكّر يومه إن كان مزاجه شديد الحساسية تجاه هذه الأمور. تم وضع البوق في السيارة لاستخدامه وقت الحاجة فقط، وليس للتعبير عن الغضب والاستياء الذي تشعر به أنتَ يا ملك الشارع. 

ومن الأشياء التي نراها – فقط – في الزحام، ننتقل إلى الأمور التي نراها في أصغر الشوارع وأكبرها في كل وقتٍ وحين، الوقوف في أماكن غير مناسبة بتاتاً: إمّا الوقوف صف ثانٍ لشارع لا يتّسع إلا لسيارتين مما يعطّل حركة السيارات في كل الشارع، أو الوقوف في موقف ذوي الاحتياجات الخاصة لأنّه الأقرب للوجهة المرادة ممّا يحرم الشخص المعني من أبسط حقوقه بأن يغادر سيارته بأريحية تناسب وضعه الخاص، أو الوقوف أمام سيارة أخرى مما يسدّ طريقها ويُعجزها عن التحرك من مكانها، أو الوقوف في موقفين وهو ما ينمّ عن أنانية صاحب السيارة وخلوّه من حسّ المسئولية الاجتماعية تجاه الآخرين. إلى جانب الشتائم التي تتقاذف في كلّ صغيرة وكبيرة. 

قد تكون كل هذه الأمور تافهة بالنسبة للبعض ويرون أنّ استيائي منها بهذا الشكل مبالغٌ فيه، ولكنني شخصياً أشعر بالغضب الشديد تجاه تلك المواقف التي أراها من وجهة نظري في غاية الأهمية، فأزمة السير في الظاهر تخفي في باطنها أزمة حقيقية في الأخلاق، حيث تظهر لنا تردّي أخلاق البعض من خلال تصرّفاتهم المشينة التي تخلو من الأدب والذوق وحُسن الخُلق، فكما تختبر المعادن بالحرارة يُختبر الانسان بالأزمات، وأزمة السير – وما يحدث على الطريق عموماً- إحداها لأنّها تجعل الإنسان يشعر بالغضب جرّاء الانتظار لوقتٍ طويل مما يكشف عن جوهر أخلاقه. 

من الأشياء التي نراها فقط في الزحام الوقوف في موقف ذوي الاحتياجات الخاصة لأنّه الأقرب للوجهة المرادة ممّا يحرم الشخص المعني من أبسط حقوقه بأن يغادر سيارته بأريحية تناسب وضعه الخاص.

حصلتُ على رخصة القيادة منذ ما يقارب تسعة أعوام، ولكن أزمة السيارات لم تكن بهذا الحجم المهول الذي نراه حالياً والذي بات يتزايد بشكل مخيف، والأهم من هذا أنّ مع ازدياد أعداد السيارات في الشوارع بدأت تقلّ مستويات الأخلاق بتناسبٍ عكسيّ، وصار لزاماً علينا أن نفرض دروساً في الأخلاق على سائقي المركبات. هذه الدروس تشمل مهارات ضبط الأعصاب وكظم الغيظ، احترام الآخرين وعدم التعدّي على حقوقهم، بالإضافة إلى الآداب العامة للطريق. 

حين يكون المرء منّا محاطاً بأناسٍ يعرفهم أو يهتم لرأيهم يحاول قدر المستطاع أن يكون خلوقاً مؤدباً، وأن يُظهِرَ أفضل ما لديه من الأخلاق الحسنة، ولكن حقيقة الشخص تظهر عند وجوده بين مجموعة مجهولة الهوية بالنسبة له، لا يعرفهم ولا يتوقّع أن يلتقيهم مرةً أخرى، فيتصرّف وفقاً لطبيعته التي تبيّن أخلاقه الحقيقية وليست المصطنعة. وعند القيادة تظهر معادن الأشخاص وأخلاقهم بلا تزييف.

على الطريق، أحاول أن أكون لنفسي حسيباً ورقيباً كي لا أسمح لأي شخص أن ينتقد أخلاقي أو يسيء لي بكلمة بسبب سلوكياتي، فلا يهمّني حصولي على مخالفة مرورية لتجاوز الحدّ الأقصى للسرعة أو عدم ربط حزام الأمان بقدر حرصي على احترام الآخرين وعدم التعدّي على حقِّ الطريق، ولكن بالنهاية كلنا خطاؤون وخيرُنا من تعلّم من خطئه وتجنّب تكراره، كما أنّ ارتكاب الخطأ لا يمنع من انتقاده ومحاولة تقويمه. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.