خرجت تيمم وجهها شطر ذلك البستان يلفها رداء زهريٌ وحزنٌ لم يزل عاكفًا على قلبها منذ سبعة أيام، هي ما بين غيابه وبين خروجها. تمر على الجالسين أمام دكانٍ أو دارٍ فيقفون مطأطئين، يضيع همسهم بين صفير الريح التي تنثر رداءها حولها فتكشف كراسة أوراق قد ضمتها إلى ثوبها. لم تكن ترى شيئا من ذلك الذي حولها، لا شيء سوى كلمات وجدتها في مخطوطة صغيرة من أوراقه، لا تزال تتراءى لها: ".. سميتها جهان لتكون لي العالم كله، وإني أراها اليوم عروسا ولم تبسُطْ بعدُ كفها، وأرى جهازها تحمله الجِمِال يتهادين بكل نفيس من الحرير والجوهر، سأنسج لها الحرير بمغزل عقلي، وأنظم هذا الجواهر بنور عيني".
"في يوم ميلاد (العالم)، أسرجت هذي الأوراق أدون فيها تاريخ هذا العالم، جامعا له من تمائم كل زمان ما يحفظ الزمان حتى يغدو العالم آمنا في كل زمان يدركه". طفلةً، كبر (العالم) بين يديه، والجواهر ينضدها كل ليلة في كراريسه، بيتا وراء بيت، جامعا حكايات الأقدمين باحثا فيها عن كل حكمة وطرفة تكمل التميمة، وتعلم الزمان أن يترفق بابنته، فلا يقسو عليها، حتى إذا استوت "جهان" فتاة قد مستها الشمس فأنبتت أنوثتها، "وطرق الباب من خلف الستار شخص بشكل القمر، للشمس المضيئة المملوءة بالألوان والعطر،" حمل كراريسه إلى الأمير محمود، عارضا جواهره منتظرا جواهر الأمير.
"باب رزان" هو أحد أبواب طبران، والتي خرجت منه جنازة الفردوسي، ليدفن في بستان ورثه عن والده بعدما منع خطيب طبران أن يدفن في مدافن المسلمين لنفس التهمة التي سبق ومنعت عطيته |
"نظر الأمير يا بنيتي في الأوراق، وكلما أتم لوحا تهلل واستبشر، قضينا الليالي والمنشدون حول عرشه ينشدون له من أسفار أبيك ما يسكره حتى الصباح، فلما تم له السماع، وحان أوان الهدية ألقى الشيطان في أمنيته أن شاعرك شيعي معتزلي، فإذا الألواح التي كانت بين يديه بِشْرًا، إذا هي يتطاير منها الشرر، وإذا الوجه الذي كاد أن يأمر لكِ بملأ الأرض ذهبا، قد غاض فلم يبق في قاعه إلا عشرون ألفا!
تركت القصر إلى الحمام، ودفعتها كلها إلى صاحبه، وتركت الماء يمحو عني ما علق بي من صحبة الأمير".
كانت جهان قد شارفت ضاحية طبران، عند باب رزان، وبدا لها البستان قيد حجر، تفجرت عيناها بدمع له صهيل.
"ها قد أدرك الأمير ما لك عنده يا أبي، وجيادُه في رودبار تهز الأرض من أحمالها التي خلعها عليك، ورسوله يبحث عنك أن قد أدرك الأمير حزن لما فعل، وإن سفرا كسفرك لا يكافؤ عليه بمثله أبدا، وكدت أقبل ما أرسل، حتى وجدت أوراقك فأمسكت".
تحت دوحة وارفة كان القبر تحفه الأزهار، فكّت جهان الكراسة ونشرتها على قبره.
"وقد أردت أن أؤمنك يا ابنتي أَمَانَين، أمان المال يشد ظهرك ويزين نحرك، وأمان حين يدرك الأمير حكمة التاريخ بما جمعت له من أخبار وسير، فيقل خطؤه ويحفظ الرعية من هلاك يلحقها بفساده، أو بتآمرٍ عليه أو بحرب لا نفع فيها، فلم أنل مالا ولم يسمع الأمير".
مكثت على قبره، حتى اصفرت الشمس، ثم قامت وظلها مفروش إلى يمينها، وهي تتمتم: "لا تميمة تحمي غوائل الزمن مثلك يا أبا القاسم.. بعدك لا تميمة في مال ولا في أمير."
هذا ما لم تدونه الكتب من سيرة أبي القاسم منصور المعروف بالفردوسي والمنسوب إلي طوس بلد مولده وابنته التي لم نعلم ما اسمها على الحقيقة إذ أن اسمه نفسه قد وصلنا على خلاف فيه، أما المدَوَّنُ فهو أنه حين أتم الشاهنامة التي استغرق في كتابتها قريب من ثلاثين سنة، ودفعها إلى الأمير الغزنوي محمود، رده خائبا بغير عطية حين بلغه أنه شيعي معتزلي، واستدل له الوزير الذي أوغر صدره بهذه التهمة بأبيات من الشاهنامة نفسها تفيد ما قال، وكان جواب الفردوسي أن سار إلى شهريار آل بودان، وهو أمير طبرستان، ومن نسل الأكاسرة، وهجى محمود الغزنوي في بلاطه بمائة بيت، اشتراها منه شهريار كل بيت بألف دينار، ثم أخذ الصحيفة التي كان الفردوسي قد كتب عليها هجاءه فمحاه كله.
أما "باب رزان" فهو أحد أبواب طبران، والتي خرجت منه جنازة الفردوسي، ليدفن في بستان ورثه عن والده بعدما منع خطيب طبران أن يدفن في مدافن المسلمين لنفس التهمة التي سبق ومنعت عطيته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.