رفع المغرب شعار العهد الجديد، وانخرط في مسلسل لمحو آثار سنوات الرصاص التي كانت جحيما ووبالا على عائلات مغربية ذاقت الويلات من جراء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، قتلى ومقابر جماعية، مفقودون، وسجون سرية، تعذيب وحشي، واعتقالات بالجملة، ومحاكمات صورية، وأحكام جزافية، وتهم ثقيلة، انتفاء شروط المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع، وتبني محاضر موقعة تحت التعذيب والإكراه، ولم يطلع عليها المتهمون.
إنه ماض أسود، أرادت الدولة المغربية القطع معه، ودفنه إلى غير رجعة، فأنشأت هيئة الإنصاف والمصالحة، وضمت العديد ممن كانوا ضحايا الجمر والرصاص، لكي يحكوا عن مآسيهم وأهوال ما تعرضوا له، لكن لم يسمح لهم بالكشف عن أسماء المنتهكين، ولا الإشارة إليهم بالأصابع، والطامة الكبرى أن ذلك كان بحضور جلاديهم، فأي إنصاف هذا الذي يأتي بالضحية لكي يروي مأساته على مرأى ومسمع من جلاده دون أن يتمكن من الإشارة إليه أو تقديمه للمحاكمة لنيل جزائه؟
لقد اكتفى الضحايا بتلقي أموال لجبر الضرر، لطي صفحة الانتهاكات، وصَرَفَتْ فيها الدولة أموالاً طائلة، تعويضا عن التعذيب والاعتقال التعسفي الذي قضاه الضحايا. وبعد أن أسست الدولة مجلسا استشاريا لحقوق الإنسان، وانتدبت وزيرا مكلفا بالشأن الحقوقي لدى الحكومة، وأصبحت مواظبة على تقديم عرضها السنوي الحقوقي أمام الهيئات الدولية المهتمة بهذا الشأن، محاولة قطع الطريق على التقارير المرفوعة إلى تلك الهيئات الأممية والدولية الحقوقية من لدن الجمعيات الوطنية، مخافة إزالة مساحيق التجميل وتعكير صفو العلاقات الدولية والأممية، وما يجر ذلك من متابعات.
الدولة طالما وجدت مناهضين لها، فلن تكف عن التضييق عليهم، بل والتنكيل بهم بشتى أنواع الأساليب، تارة بالإشاعة المغرضة، وتجييش الأقلام الصحفية المتآمرة وغير المهنية. |
يتغابى الإنسان إن ظن لوهلة ما بأن الدولة قد قطعت مع ماضيها الأسود بشأن انتهاك حقوق الإنسان بالمغرب، فقد انتقلت إلى استعمال أساليب أخرى مغلفة بنصوص قانونية وقرارات إدارية، لكي تعيق مسيرة من يجابهها، وتشغله بنفسه، وتحد من نشاطه السياسي والحقوقي. فقد أصبحت الدولة تجر مخالفيها إلى القضاء، وتسارع إلى استنطاق كل من خرج بتصريح يتهمها فيه، أو يعرض فيه أنه يتعرض لانتهاك، وتقدم بحثها في النازلة، وتخرج ببيانات توضيحية وإعلامية.
وما حدث إعفاء العديد من مدراء المؤسسات التعليمية والحراس العامين والمفتشين المنتسبين إلى جماعة العدل والإحسان من مهامهم في قطاع التعليم ما هو إلا نوع من التصفية المعنوية لمن تعتبرهم الدولة أعداء لها. فكيف للدولة بعد أن شرعت في قانون الشغل في المادة 36 -"لا تعد الأمور التالية من المبررات المقبولة لاتخاذ العقوبات التأديبية أو للفصل من الشغل: 5- العرق، أو اللون، أو الجنس، أو الحالة الزوجية، أو المسؤوليات العائلية، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو الأصل الوطني، أو الأصل الاجتماعي"- من أجل حماية الأجير في المقاولات ضد انتهاكات رب العمل، واعتبرت في الدستور أن حق الشغل مكفول دستوريا، وهو أسمى قانون في الدولة، إلا أنها لا تتوانى عن تعريض الموظفين لديها للمضايقات المعنوية، ودفعهم نحو طلب التقاعد النسبي، أو تجريدهم من مهامهم ومسؤولياتهم نظرا لتبنيهم لآراء سياسية مخالفة للسياسية العمومية للدولة.
إن الدولة طالما وجدت مناهضين لها، فلن تكف عن التضييق عليهم، بل والتنكيل بهم بشتى أنواع الأساليب، تارة بالإشاعة المغرضة، وتجييش الأقلام الصحفية المتآمرة وغير المهنية، بل وقد تقوم الدولة نفسها بإنشاء مقاولات صحفية تكون مهمتها هي الإساءة لسمعة المناضلين والنيل من نزاهتهم، بمقابل كيل التنميق والتصفيق والتطبيل لسياسة الدولة اتجاههم ومباركتها أحايين كثيرة باسم الشعب.
فلا غرو في أن تسلك الدولة هذا المسلك، لكي تضمن تمرير مخططاتها في الاستحواذ على مقدرات الوطن، والنيل من مناهضي سياستها، وإخافة من دونهم، لكن هذه المرة عن طريق الالتفاف ولي عنق القوانين، وسد جميع الذرائع التي يمكن أن يلجأ إليها من انتهكت حقوقه، وصبغ كل انتهاك بلون القانون والقرار الإداري، ودعوة كل متضرر باللجوء إلى القضاء قصد إنصافه، ليجد في وجهه قضاء غير مستقل، ومتحكم فيه عبر الأوامر الفوقية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.