وهنا نستحضر الموجة الاستعمارية التي وقف في وجهها الأجداد، والتي إلى خروج المستعمر من البلاد جيشا وجسما وبقي روحا وبرامج، ولا تزال المجتمعات المسلمة تتلظى بلظى المستعمر وتنفذ برامجه السياسية والاقتصادية من قبل حلفائهم وخدامهم المستحوذين على المؤسسات والمراكز الحساسة في الدول. وإلا فالنتيجة الطبيعية بعد خروج الاستعمار منذ نصف قرن ونيف أن تعود الشعوب إلى سيرها الطبيعي لتشق طريقها في طريق النمو والتطور.
وبسبب الاستعمار المعنوي والمادي المستمر يضيق الخناق على كل حركة تحررية تريد الانعتاق من التبعية الغربية التي ينفذ بنودها حلفاؤهم عن طريق صندوق النقد الدولي الخانق لكل بلد متخلف. وبسبب ما ذكرنا وما لم نذكر وجدت الشعوب المسلمة محاصرة في كل حركاتها الفكرية منها والسياسية والاقتصادية، ليدب اليأس إلى نفوس الشباب المسلم الذي يحس بالإهانة الدائمة بسبب ما تعيشه أمته من تخلف واستخفاف من قبل الآخر، ليتولد بذلك شعور يطالبه بالتحرر وامتلاك القوة التي تحصن أمته ومعتقده والتي لم يجدها في الدولة التي يعيش تحت سلطانها. ولذا لا بد لمتتبع أسباب التطرف في العالم أن يقف على الحقيقة الكبرى المؤدية إليه، بحيث أن السنن الإلهية تسري في كونه دون توقف، بحيث من تتبعها يجني ثمارها، فإن كانت خيرا فخير، وإن كانت شرا فشر.
التطرف في مفهومه العام يُربط بالطغيان، والحق أن الإسلام ينبذ التطرف بكل أشكاله، ويضمن للإنسان حرية المعقد بشروط عدم الإضرار بالمجتمع والأمة. |
فالتطرف يتكون في الجتمعات إذا اختلت الموازين وطغى مكون على آخر، وأعني هنا مكون السلطة ومكون الشعب. فإذا كانت السلطة تنفذ البرامج المحددة والتي حددت وفقا للتوجهات الرسمية للشعب والبلد، محترمة الحرية والديانات والأفكار، بحيث توفر للشعب الحقوق المتعارف عليها دوليا من حرية وكرامة وغيرها مما يحترم الإنسان ويحفظه حياته، حينها فقط يكون الشعب ملزما باحترام هذه السلطة وحمايتها من كل ما يتهددها وينسف برامجها كان من كان.
وهنا أذكر في عبرة عابرة ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز من إرجاع للثروات إلى صندوق الدولة ووزعها على المواطنين بالاستحقاق، وعدل في حكمه حتى مع من خالفوا ديانة الإسلام ، فأصبحت فترة حكمه مثالا للعدل والرفاهية وساد الاطمئنان بين الناس، حتى الفرقة التي كانت شديدة التطرف المتمثلة آنذاك في الخوارج الذين كانوا يفتشون في عقائد الناس فيقتلونهم بتهمة التكفير إن هم لم توافق أجوبتهم معتقدات الخوارج، سكنوا وأقفوا تحركاتهم في زمن الخليفة عمر بن العزيز لما كانوا يرونه من عدل وطمأنينة ومثالا في التقشف وإعطاء الحقوق من قبل الخليفة. وهنا نتساءل لم أوقف الخوارج المتطرفون آنذاك في تكفير الناس وقطع رؤوسهم حركتهم وإجرامهم ذاك؟ ولم عمت الطمأنينة العالم الإسلامي في عهده، مع العلم أن الذين سبقوه كانوا مفتونين في مواجهة الفرق، وخاصة حين سلطوا سيف الحجاج عليهم؟
لا بد أن يستنتج العاقل أن العدل هو صمام أمان الأمة وهو الضامن الوحيد الذي يوقف كل تحرك يسعى إلى التحرر من ربقة الظلم الضارب بجذوره في الأمة بسبب تشتت أمصارها، ووراثة حكامها دون أن يشركوا أفراد الأمة في شيء أو أن يساهموا في تبني المفاهيم الكبرى للإسلام من وحدة وجهاد وعدل وشورى وإحسان لضمان الآخرة. ولذا لا يمكن أن نعتبر الأمة كمّا مهملا لا تنتج عنه حركة في ظل هذا الخناق المضروب عليها من قبل الداخل والخارج، مهددا الوجود المادي والمعنوي لكيان الأمة.
كل ما يهدد حياة الإنسان وحريته هو تطرف دون تخصيصه في طائفة أو دين أو بلد، والحل الوحيد لكل أشكال التطرف في البلدان العربية والمسلمة والعالم هو إعطاء الحرية الكاملة التي لا تضبطها القوانين. |
ومن هنا فالتطرف إن وجد في بلد معين لا بد من إرجاع أسبابه إلى طبيعة السلطة الحاكمة في ذلك البلد، بحيث تتعامل مع الطاقة الشبابية بالقمع والتهميش وضرب أحلامهم وأمانيهم ومعتقداتهم عرض حائط السمع والطاعة دون أدنى حق من الحقوق المضمونة في الكون من حقوق الإنسان.
والتطرف في مفهومه العام يُربط أساسا بالطغيان والظلم سواء كان دافعه السلطة أو الفكرة، والحق أن الإسلام ينبذ التطرف بكل أشكاله، ويضمن للإنسان حرية المعقد بشروط عدم الإضرار بالمجتمع والأمة. وما نراه من إلصاق التطرف بالإسلام في القنوات الإعلامية المعادية للإسلام؛ هو تطرف في حد ذاته كون التحليلات الإعلامية مدفوعة الثمن من قبل من يسعى إلى تبرئة نفسه من هذا التطرف وإلصاقه بمن يعتبره عدوا، بسبب الفهم الخاطئ الذي نتج عن الاستبداد في الحكم الذي أدى الى الجهل بالدين وبالأساليب التي يجب اتباعها في الدعوة إلى الإسلام، وخاصة بعد صمت العلماء عن المفاهيم الكبرى في الإسلام خوفا من الحكام. فتناولها ضعاف العقول الذين استغلوا أبشع استغلال في العراق والشام.
وفي ختام هذه العبارات يمكن القول بأن الإنسان وجد لأجل غاية سخر الله له من الوسائل العقلية والمادية ما يساعده على القيام بها. وهي الاستخلاف في الأرض وإعمارها دون سفك للدماء ولا طغيان مع إخلاص العبودية للموجد وللمنعم. وأي خروج عن السنن الإلهية الموضوعة إلا وسيؤدي إلى تطرف سواء كان يمينيا أو يساريا يدفع ثمنه البسطاء من الناس الذين لا حول لهم ولا قوة.
وكل ما يهدد حياة الإنسان ووجوده وحريته هو تطرف دون تخصيصه في طائفة أو دين أو بلد، والحل الوحيد لكل أشكال التطرف في البلدان العربية والمسلمة والعالم هو إعطاء الحرية الكاملة التي لا تضبطها القوانين العادلة والأعراف والمعتقدات، دون أن يطغى متصرف بحريته على الآخر، تاركين الحق في استعمال الإقناع والحوار ليختار الإنسان ما يؤمن دون خوف أو شعور بخطر يهدد وجوده.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.