ولا يزال هؤلاء النازحون واللاجئون يحلمون بالعودة لفلسطين وكثير منهم يحملون مفاتيح بيوتهم التي هُجّروا منها، ومن قضى نحبه قبل أن يتحقق حلمه فقد ورّث حلمه لأبنائه وأحفاده من بعده! وقد شاهد معظمنا الحاج محمد أبودية -الذي شهد (النكبة) بكافة تفاصيلها صبيا يافعا- على خشبة مسرح المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج حاملا (قواشين) (١) بيته وأراضيه بيده معلنا رفضه التنازل عن حقه في العودة لأرضه وبيته محمّلا أمانة تحقيق هذا الحلم لحفيده الذي كان يقف إلى جانبه إن هو وافته المنية -لا قدّر الله- قبل تحقيق ذلك.
إن التنازل عن (حق العودة) هو بلا شك بمثابة تقديم صك براءة لمجرمي حرب ارتكبوا المجازر الشنيعة بحق أهلنا قبل سبعين عاما ولا يزال خلفاؤهم من قادة الكيان الصهيوني يرتكبونها دون مبرر أو رادع.
هذه الجرائم والمجازر التي اعترف الصهاينة أنفسهم بارتكابها عبر مؤرخيهم الجدد وعلى رأسهم (إيلان بابيه) الذي فضح في كتابه (التطهير العرقي في فلسطين عام ١٩٤٨) عشرات المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية وأسماء القادة الذين ارتكبوها، وبالتفصيل، وعرض لعشرات القرى والبلدات التي تعرضت لما تعرضت له دير ياسين والطنطورة مثل سعسع، وعين الزيتونن وصفورية، وغيرها، ولعلّي في تدوينة قادمة أقدم مختصرا لما تعرضت له قرىً وبلدات فلسطينية من حملات تطهير عرقي مقصودة ومستهدفة وكان لها هدفها الاستراتيجي صهيونيا.
سيكون للمسلم والمسيحي أن يزور المدينة المقدسة دون حواجز ومعوقات وقطعان مستوطنين تعيث في الأرض فسادا، تعبث في التاريخ والأرض، وتدنس كل طاهر. وإلى لقاء حتمي في فلسطين.. كل فلسطين.. |
هذه المجازر لا تسقط بالتقادم، والتنازل عن حق العودة كفيل بأن يُسقطها، وكأننا نهدر دماء آبائنا وأجدادنا الذين قضوا بلا ذنب سوى أنهم أصحاب أرض أرادها الغرب ملاذا لفئة ضاق بها، فصدّروهم لها وسهّلوا أمر هجراتهم الجماعية لها وأمدّوهم بكل أسباب القوة والجبروت، لينتهوا بجيش عرمرم بعد أن كانوا مجرد عصابات ومطلوبين أمنيا في أوروبا، وبكيان مسخ لا يمت للأرض بصلة بعد أن كانوا مشتتين بين أصقاع الأرض لا يربط بينهم سوى بقايا تلمود صاغوه خدمة لشيطان تحدىّ ربّ العزة فكانوا له جنودا!
لقد كان مشهد الحاج أبودية وحفيده مهيبا حتى أني تخيلت أنه جعل عظام بن غوريون وهرتزل تتململ في قبرهما، وما شهدناه في أروقة المؤتمر من كبارٍ طاعنين في السن يرتدون القمباز(٢)، ونساء يرتدين الأثواب الفلسطينية المطرزة، وأطفال يرتدون الكوفية ويتراكضون حاملين العلم الفلسطيني ومعه يحلمون بأن يركضوا في بيارات فلسطين يتنسمون هواها، يداعبون سنابلها، يساعدون أهاليهم في جدّ (٣) زيتونها، كفيل بأن ينسف مقولة أحد الصهاينة "الكبار يموتون، والصغار ينسون!" فلا الكبار ماتوا ولا نسي الصغار.
حق العودة يا سادة هو أبسط ما يمكن أن ينعم به أي إنسان على وجه البسيطة، وإذا ماحاز الفلسطيني هذا الحق فوقتها سيكون هو صاحب القرار فيما إذا كان يريد العودة والاستقرار في فلسطين أو الاستثمار أو السياحة فيها أو مجرد زيارتها لكن دون حواجز وموانع وتأشيرات وتهديد واعتقال وربما قتل!! فكم من أميركي وأوروبي وعربي وأفريقي وآسيوي لا يعيش في بلده الأصلي لكنه -بشكل عام- يملك حق العودة لها دون قيد أو شرط متى وكيفما شاء، فلماذا تضيق على الفلسطيني وهو صاحب الأرض الأصلي وبحوزته ما يثبت ذلك؟!
من هنا ينبغي أن نُعلي ثقافة المطالبة بحق العودة بين أجيالنا الفلسطينية الشابة والناشئة، ولا ينبغي أن يقف التفكير به من ناحية فيزيائية عائقا في سبيل تحقيقه، فحق العودة والعودة أمران لا تناقض بينهما ولا تعارض، فالثاني نتيجة طبيعية يقررها من امتلك الأول. فإذا ما امتلك الفلسطيني (حق العودة) فستعود للمسلمين ملكيتهم للمسجد الأقصى، وهو الوقف الإسلامي لعموم الأمة دون تخصيص -إلا ما ندر-، وسيكون للمسلم والمسيحي أن يزور المدينة المقدسة دون حواجز ومعوقات وقطعان مستوطنين تعيث في الأرض فسادا، تعبث في التاريخ والأرض، وتدنس كل طاهر. وإلى لقاء حتمي في فلسطين… كل فلسطين…
الهوامش:
(١) قواشين: جمع (قوشان) وهي كلمة تركية تعني الأوراق الثبوتية الخاصة بتملك العقار.
(٢) القمباز: هو اللباس التراثي الفلسطيني الأكثر شهرة، كان يرتديه الفلاحون الفلسطينيون ولازالت العديد من فرق التراث الشعبي الفلسطيني ترتديه إلى يومنا هذا.
(٣) جدّ: بفتح الجيم وتشديد الدّال هو فعل قطف الزيتون وهو من أهم مواسم الحصاد في فلسطين وبلاد الشام عموما ويكون في بداية شهر نوفمبر/ تشرين ثاني من كل عام، إلا أن أهل فلسطين عمدوا مؤخرا إلى تبكيره للمنتصف من شهر أكتوبر/ تشرين أول أو قبل ذلك بأيام تفاديا لتنغيص المغتصبين الصهاينة عليهم هذا الموسم إما بسرقة أو تجريف أو حرق أو قلع أشجار الزيتون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.