تحاجج تلك الفئة بأن العنف مدانٌ ضدّ الإنسان على أي عرقٍ أو دينٍ أو فكرٍ كان، إلا أنها قطعاً تُغفل موقعه من الظلم ضحية هو أم جلاد؟ مواطنٌ هو أم مستعمِر؟ والمساواة هنا لا ريب سقطة أخلاقية تضيع فيها الحقوق وتهدر فيها الدماء ويزيد فيها الذين بَطشوا بطشاً والذين قُهِروا قهراً، وفي فلسطين فإن القضية أبسط من التعقيد وأعمق من التسطيح، فالمسألة بسيطة من حيث جلاء الحق فيها وعميقة بما تحمل من معانٍ وارتباطات مادية ووجدانية.
سبل المقاومة كلها مشروعة للشعب الفلسطيني سلميةً كانت أم مسلٌحة، ويظل تقدير ساعة كل منها ومكانه رهن الظروف السياسية. |
تقسم فلسطين التاريخية سياسياً اليوم إلى قسمين رئيسين هما: فلسطين المنكوبة عام 1948م وهي الأراضي المعترف بها أممياً على أنها دولة إسرائيل، وكل من لا يعترف بإسرائيل فقد شرّع لنفسه بداهةَ المقاومة فيها، والقسم الآخر هو ما تبقى من فلسطين وجرى احتلاله عام 1967م ويعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، وهي أممياً أراضي فلسطينية محتلة من قبل إسرائيل وتكفل المواثيق الدولية للفلسطينيين حق مقاومة المحتل فيها.
كواحدة من آلاف العائلات التي هُجّر كبارها قسراً من فلسطين عام 1948م، فإنه لا تزال لدى عائلتي حجج عثمانية وأخرى إنجليزية تثبت ملكية الجد لأراضي في ريف القدس، كشاهد لا يتخلى عنه الفلسطينيون يثبت حقهم بالأرض وبالتالي حقهم بالعودة، ومن جهة أخرى فإن الروايات التي نقلها طبقياً آلاف عن آلاف تتواتر حتى اليوم دون انقطاع في السند مُثبتةً حقيقة المذابح والفظائع التي ترويها كشاهد آخر على الحق في دماء آلاف الشهداء.
الحقوق المسلوبة تتجاوز المادة إلى المعنى فالأرض بتجاوز قيمتها الشرائية جزء من الهوية التاريخية للأمم، والإنسان الفلسطيني بتجاوز حياته المجردة تهتكت حياته الاجتماعية وتحورت بسبب التهجير والتشريد، وتبقى قضية المقدسات الإسلامية والمسيحية التي سُلب بعضها وحول إلى كنائس يهودية أو مرافق ترويحية، قضية تحمل من المعنى ما لا يمكن التغاضي عنه فالمقدسات الدينية جزء من الهوية والتراث وليس لأحد أن ينتقص من هوية فرد فكيف بشعب.
استجلاب العطف للبشر ليست مساحةً دائمة الإتاحة، خاصة إذا ما كانت في حق الجلاد على حساب الضحية فتلك مساحةٌ حمراء عارٌ أن يوغَل فيها. |
اليوم أيضاً لا زالت غزة المحاصرة والتي يكفل لها القانون الدولي المقاومة تتعرض لمعادلة شديدة البؤس من الغطرسة، فإسرائيل تقتل مئة فلسطيني أمام كل إسرائيلي، فيما تطبق بحصارها على كل مناحي الحياة، وأما الضفة الغربية فقد التهم الاستيطان ثلثي مساحتها فيما يعيش سكانها في الثلث المتبقي منها، تقيد حركتهم مئات الحواجز الإسرائيلية ويقطع وصلهم جدار عازل قسم البلدات والحواري وحتى البيوت. استعرض حالات القهر التي يتعرض لها الفلسطينيون يومياً، كمقدمة ضرورية للتأكيد على أنَّ المقاومة التي يبديها الفلسطيني اليوم بأدواته البدائية، اضطرارٌ وليست اختيار، ومن هنا يمكن العبور للسؤال المثير للجدل من نقاوم وكيف نقاوم؟
أما عن كيفية المقاومة فإن سبل المقاومة كلها مشروعة للشعب الفلسطيني سلميةً كانت أم مسلٌحة، ويظل تقدير ساعة كل منها ومكانه رهن الظروف السياسية، وأما عن سؤال من نقاوم وتجاه من نصوب السلاح فإن هذا السؤال يحتاج منا بعض الدراية بتركيبة المجتمع الإسرائيلي، بالتغاضي عن عرب 1948م وهم مواطنو فلسطين التاريخية الذين لم يهجروها ؛ فإن إسرائيل كيان جعل من كل رعايا الدولة جنوداً في الجيش بين الاحتياطي ودائم الخدمة ذكوراً وإناثاً فهي "جيش له دولة" وهو الأمر الذي جعل من كل المجتمع الاسرائيلي أهدافاً عسكريةً مشروعة للمقاومة.
وتبقى عقيدة المقاومة الأخلاقية الضامن لتجنيب الأطفال والعجائز هول الصراع وقد أثبتت عمليات كالتي أجرتها المقاومة في بيت فوريك-نابلس 2015 أن المقاومة تتمتع بحس أخلاقي رفيع، ويمكن تدعيم ذلك أيضاً عبر متابعة الأهداف التي قصفتها المقاومة خلال حرب غزة الأخيرة حيث شاع استهداف منشآت الجيش.
لعلّ حجم الأذى المهول الذي طال الشعب الفلسطيني عبر ما يقارب السبعين عام يُملي على الكثيرين الوقوف طويلاً عند هذه المعطيات فاستجداء الرحمة واستجلاب العطف للبشر ليست مساحةً دائمة الإتاحة، خاصة إذا ما كانت في حق الجلاد على حساب الضحية فتلك مساحةٌ حمراء عارٌ أن يوغَل فيها، تماماً كما أن العزف على وتر التعاطف مع المحتل لا يتعدى حقيقته رقصاً على جثّة صاحب الأرض.