شعار قسم مدونات

كثيرون حول الحجاب قليلون حول الحشمة

مدونات - الحجاب

نعم أعرف أننا نقرأ أو على الأقل نسمع عن نقاشات تدور حول الحجاب طوال الوقت، أحياناً يغدو الأمر مستفزاً، لأننا نعتقد بأنه وبعد أكثر من 1400 عام من الوحي سيصل الناس إلى مفهوم مقبول ومنطقي يتماشى مع فلسفة الدين الذي يتبعون ويعبر عن روح الرسالة التي جاء بها. ولكن الحقيقة يا أصدقاء أن السمة الدائمة للبشر هي النسيان، واللف في دوائر، والنزوع الدائم نحو التغيير والتحوير، وإلا لما ملّوا من المن والسلوى ونظروا إلى الفوم والقثاء والعدس.

مشكلتي مع النقاشات التي تدور حول الحجاب تتمركز حول الاختزال الكبير له في قضية اللباس ثم اختزال هذه الأخرى لتقتصر على غطاء الرأس فقط! وكأن هذا الدين الذي نزل خاتمة للرسالات عندما أراد أن يتحدث عن طريقة يحفظ بها نفوس الناس وأرواحهم من الفتنة والرياء لم يتفتق إلا عن قطعة قماش نلف بها رؤوسنا!

 

كيف وصلنا إلى هنا؟ هناك عوامل كثيرة، منها ما يتعلق بنا كمجتمعات بشرية وطبيعتنا التي غالباً ما تنزع للاختزال وتبسيط الأشياء إلى قوائم نؤشر عليها ونصنف أنفسنا والعالم تبعاً لها، ومنها ما يتعلق بطبيعة العلاقة بين المرأة والرجل عبر التاريخ وتأثير العادات والتقاليد الكبير على قضية كهذه، ومنها ما يتعلق بمجتمعنا المعاصر والثقافة المادية الاستهلاكية التي تعلي كثيراً من شأن المظهر الفردي وتترك المجتمع خارج حساباتها. على كل حال ليست مدونة من ألف كلمة مجالاً لنقاش مطول في قضية كهذه، ربما يمكنني مستقبلاً أن أعد بحثاً استقصائياً مطولاً، أما اليوم فسأتحدث عن القطيعة المستحدثة بين فكرة السترة والتي أعتقد أنها المصطلح الذي يجب أن نستبدل به كلمة حجاب، وتحقيق قيمة الحشمة التي تنطوي تحتها الاختيارات المتعلقة بملبس الأفراد.

 

"يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ"

"قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ"

 

إن الحشمة التي أقصدها هي تلك التي لا تنظر إلى محددات العورة بين السرة والركبة، وتلك التي تقف عند الوجه والكفين أو تغمرهما، إنها الحشمة التي تتجاوز المطلوب إلى ما يتجلى فيه صورة التقوى والقسط

كلما قرأت هاتين الآيتين لم أستطع إلا أن أفكر كيف أنهما تحددان لنا دون تعقيد وطول تفسير ما يجب عليه أن يكون حالنا فيما يخص قضايا تتعلق بالطريقة التي يتعامل فيها الإنسان مع العالم من حوله. وقضية الستر (الحجاب) هي في أساسها محدد للطريقة التي نتعامل بها مع العالم من حولنا، فلا نلجأ لستر أنفسنا ونحن في خلوة، ولا نتجمل بأكوام "الرّيش" حتى نتجول في بيوتنا، ولكننا نفعل ذلك كجزء من تعاملنا مع الناس والعالم. لذلك أمرنا بالقسط بأن نتذكر دائماً مع كل صلاة أنه كما خلقنا نعود، بلا ستر وبلا ريش.

 

"يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا" وهل نزع الشيطان لباس أبينا وأمنا؟ لا إنما نزع هو لباس التقوى وبه انكشفت العورة وزال الستر. فكيف يا جماعة الخير نغفل نحن عن هذا الربط الإلزامي بين لباس يواري السوءات ولباس التقوى؟ بين الستر والقسط؟ وكيف نغفل عن أن الحديث شمل بني آدم، وشمل الأبوين، ولم يتنزل قصراً على بنات آدم وأمنا؟

إن الحشمة التي أقصدها هي تلك التي لا تنظر إلى محددات العورة بين السرة والركبة، وتلك التي تقف عند الوجه والكفين أو تغمرهما، إنها الحشمة التي تتجاوز المطلوب إلى ما يتجلى فيه صورة التقوى والقسط، فلا يحتاج الرجل لشيخ يمشي وراءه بعصاء ليقيس طول الشورت الذي يرتديه؟ بل يتنزه هو وتدفعه الحشمة إلى أن يزهد في التجمل بإسراف سواءً أكان ذلك بالستر أو بالزينة التي تأتي بعد الستر. الحشمة هي التي تجعل المرأة تقف أمام المرآة وتنظر، فإذا أصابها العجب من شيء رأته في نفسها تكرته عنها وخرجت إلى العالم، تُقسط إلى خلقه، تلبس لباس التقوى والفضل كما تلبس لباس الستر.

 

حدثوني عن اللواتي يغطين الرؤوس ويمشين بين الناس بعطور فواحة وشفاه لامعة وثياب تكشف أكثر مما تغطي، أين الحشمة في أن أسير متبخترة متمايلة بين الناس أستجدي النظرات والهمسات، وأستدعي ملاحظات الإعجاب؟ خدثوني عن اللذين واللواتي يغطون سائر البدن بالمئات والآلاف، هذا الحرير بالشيء الفلاني والكشمير بالشيء العلاني، وتلك الحقيبة من الماركة الفلانية والحذاء من الماركة العلانية؟ أين الحشمة والقسط ونحن ننفق أموال الله على أشياء نعلقها ونمشي بها على أجسادنا؟ حدثوني عن التي تستر البدن ولا تتجمل ولا تتعطر ولكن لها قلباً يقطر سماً ولساناً يبذر علقماً بين خلق الله؟ حدثوني عن الذي يتواضع في لباسه ويتسلط على خلق الله به فيعين نفسه حكماً على سلامة قلوبهم ورجاحة عقولهم؟

 

عندما نربط المظهر المادي للستر (الحجاب) بالمتطلب النفسي سيغدو أسهل كثيراً أن نتجاوز حبنا للزهو بأشكالنا، وحبنا لأن يرانا الناس محل إعجاب وسيغدو الأمر تحريراً لنفوسنا لا تقييداً لأجسادنا

قضيت وقتاً كثيراً من حياتي أفكر، ماهي روح الدين؟ أريد شيئاً أضعه أمام عيني لا أحيد عنه، لابد أن هناك بوصلة توجهنا كيف نسير، وما وجدته حتى الآن يقودني كثيراً إلى أقسطوا، لا تسرفوا، لا تختالوا، ولا تمشوا في الأرض مرحاً.. الزهد فضل يتدرج الناس فيه حسب استطاعتهم، ولكن القسط وعدم الإسراف ليست شيئاً اختيارياً خاضعاً لوضعك المادي أو حالتك الاجتماعية، إنها الحد الأدنى من الحشمة التي أتحدث عنها.

حشمة تجعلنا نستحي أن نختال في أنفسنا، حشمة تجعلنا نستحي أن نختال بين الناس، حشمة تجعلنا نستحي أن نتجبر على خلق الله ونزاحم الله في قوته ومجال حكمه، حشمة تجعلنا نستحي أن نفسد ما سخره لنا في هذا العالم، حشمة تلف حياتنا وتقودنا إلى أن نسير في الأرض ونحن نحني رؤوسنا لخالقنا في كل شؤوننا وأحوالنا.

 

عندما أقول أننا كثيرون حول الحجاب قليلون حول الحشمة، لا أستدعي بذلك أقوال من يرى ترك الأمر بالكلية في حال عدم تحقق أجزاء منه، كمن يقول للفتاة اخلعي غطاء رأسك إن كنت سترتدين بنطال جينز يحدد ساقيك. لا، أنا لا أقول ذلك، ما أتحدث عنه هو أننا عندما نربط المظهر المادي للستر (الحجاب) بالمتطلب النفسي سيغدو أسهل كثيراً أن نتجاوز حبنا للزهو بأشكالنا، وحبنا لأن يرانا الناس محل إعجاب وسيغدو الأمر تحريراً لنفوسنا لا تقييداً لأجسادنا. وعلينا أن نتوقف عن الإحساس بأننا خدمنا الأمة وحمّلنا الناس معروفاً لأننا غطينا خصلات من شعرنا!

 أستغرب كثيراً عندما أقرأ أو أسمع من تقول أن (الحجاب) يجعل شكلها بشعاً، وأسأل نفسي، هل تدرك هذه الصغيرة ما الهدف من الحجاب؟ بالطبع سيبدو شكلك أجمل حسب المقاييس الحالية عندما تصففين شعرك المصبوغ وتضعين كل أنواع المكياج، لا خلاف حول ذلك، ومن أجل ذلك كانت االحشمة، ومن أجل ذلك كان الستر، فليس الستر بأن أقلل من ظهور ما يستدعي الإعجاب والافتتان فقط، بل بأن لا أضيف إلى ما هو موجود حتى يضحي الظاهر أكثر تأثيراً من المتواري!

 

دعونا نحاول أن ننتقل بالنقاش حول الستر قليلاً إلى مرحلة جديدة، ونفكر فيه على أنه مظهر مادي لرغبتنا في أن نعزز من آدميتنا، أغطي جسدي لأنه محل كبر وزهو وغرور، ولأنه في أيامنا هذه أصبح سلعة رائجة تجعلنا والبهائم أقرب إلى بعضنا مما نحب ونرغب. ضعي قطعة القماش تلك على رأسك ولكن ضعي شيئاً منها أيضاً على تلك الناحية في قلبك التي تحب الظهور وتريد أن تسمع بعض كلمات الغزل، وربما على تلك الزاوية التي كذبت على أمك بالأمس. وأنت أيضاً، البس قميصك الذي لا يلتصق بجسدك والبس معه قميصاً آخر يواري رغبتك في إذلال ابن الجيران الذي لا يصلي في الجامع أمام والده، وربما ذلك الإحساس بالطول الذي يأتيك عندما يمتدحك الناس بما ليس فيك.. فلباس التقوى، ذلك خير.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان