كانت طريقة دخولها وخروجها مضحكة، فقد ظنت المسكينة أنها لا تظهر في الكاميرا، وأنها تمكنت من سحب الأطفال دون إثارة أي جَلبَة أثناء اللقاء التلفزيوني للمُحلل السياسي الذي يُجري اللقاء من بيته عبر سكايب.. لكن انظروا الى الجَلبَة العالمية التي أحدثتها: لقد انطلق المشهد عبر الإنترنت إلى ما لا نهاية.. ولم يتوقف الناس من مشاركة الفيديو والضحك عليه من أعماق قلوبهم. "إنها الخادمة.. وحتما ستلقى عقابها بعد انتهاء اللقاء".. هكذا أكد أحد المعلقين في صفحتي على موقع "الفيسبوك" عندما شاركتُ الفيديو وعلَّقتُ بقولي إنها "الأم".. ثم ما لبثتْ التعليقات الأخرى ببراءة تشيرُ إلى أنها بالفعل الخادمة أو على الأقل مربية الأطفال أو جليسة الأطفال كما يقال بالإنجليزية (Baby Sitter).
على رسلكم يا قوم.. إنه العقل العربي مجدداً، عندما تبدأ الصور النمطية فيه بالعمل، فقد جاء اعتقادٌ بأنها خادمة أو مربية للأطفال مُعززاً لدى الأكثرية لكون السيدة من العرق الآسيوي؛ وهو العرق الذي اعتدنا أنهم الخدم لدينا نحن العرب. ثم لم أتمالك نفسي من الدهشة.. لقد اعتقد كثيرون ممن شاهدوا الفيديو من كل دول العالم كذلك بأنها "على الأغلب المربية".. المشكلة إذن لم تكن عند العرب وحدهم "لك الحمد يا ربي"، فجاءت نسبة كبيرة من التعليقات لتشير بأن السيدة وبسبب طريقة سحبها للأطفال هي المربية (The Nanny).
قال مركز "بوو" للبحوث في دراسة أجريت عام 2015 إن نسبة كبيرة من الأجيال الجديدة في أمريكا سيكونون متعدّدي العرق، ومتداخلي الملامح وأنه في العام 2065 سوف لن يكون هنا عرق أو إثنية طاغية على ديمغرافية السكان بأمريكا. |
كان ذلك قبل أن تخرج الأسرة بأكملها، الأب وهو خبير سياسي والأم وطفليهما الظريفين، في لقاء مجدداً مع "البي بي سي" التي ظهرا عليها أول مرة ليتحدثا عن انتشار المشهد حول العالم بشكل هائل وكبير. وقد وصف الوالدين ما جرى بالظريف جداً، فيما علقت السيدة والتي أكدت بأنها "الأم وليست المربية بقولها "إنهم تضايقوا لهذا الاعتقاد من كثيرين، لكنها أملت أن يستمتع الناس بالمشهد فقط دون أن يجادلوا كثيراً، فقد كان مشهداً ممتعاً."
صور نمطية ليس أكثر!
بالنسبة لي فللوهلة الأولى وحينما شاهدت الفيديو راودتني لأقل من ثانية فكرة أن تكون فعلا جليسة الأطفال، ثم سرعان ما تذكرت ذلك التنوع المُثير بين الناس هنا في أمريكا، فكثيراً ما ألتقي عندما أذهب مع بناتي للمنتزهات وصالات اللعب العامة بنساء مثلاً من العرق اللاتيني ومعهن أطفال ذوي بشرة سمراء لا يشبهونهن، فأظل مشدوهة من الرابط بين الطفل والسيدة حين يناديها بـ"ماما" ثم ما يلبث أن يحضر الأب وهو من ذوي البشرة السمراء ليخفي تعجبي وحيرتي، ولقد اعتدت بالفعل على رؤية هذا الاختلاف والتعدد في الأجيال فرُسمت لدي صورة ذهنية جديدة عَرفتُ مباشرة من خلالها أن تلك السيدة في المشهد المنتشر ليست سوى الأم والزوجة بالفعل قبل أن يُعلنا تأكيد ذلك في المقابلة.
وهذه الملاحظة كانت جديرة بالبحث إذ قال مركز "بوو" للبحوث في دراسة أجريت عام 2015 إن نسبة كبيرة من الأجيال الجديدة في أمريكا سيكونون متعدّدي العرق، ومتداخلي الملامح وأنه في العام 2065 سوف لن يكون هنا عرق أو إثنية طاغية على ديمغرافية السكان في الولايات المتحدة الأمريكية، والسبب هو إنجاب أطفال من آباء متعددي الأعراق والإثنيات.
فليس غريباً أبداً أن تجد طفلاً تحتار معه إن كان أبيض أم أسود أو أصفر البشرة، لكن الأكيد أنه خليط من عرقين مختلفين.. فترى مثلا طفلاً ذو بشرة تميل إلى السمرة مع عينين خضراوين مدهشتين، إنه نتاج زواج عرق أبيض مع عرق أسود، كما تندهش حينما تجد طفلاً آخر وقد ضاقت عيناه ويبدو من الصين أو اليابان بينما والده واسع العينين وشعره أشقر.. وقِس على ذلك من التنوع البشري.
أتمنى أن ننظر ناحية الأفق الأوسع والأرحب من العالم الممتلئ بالألوان والأعراق والأجناس المتعددة… نحتفي به ونتقبله ونُغيّر نظرتنا إليه كي تتغيّر نظرته إلينا. |
وبالعودة إلى سيدتنا "الخادمة" فلم تكن سوى نتيجة للصور النمطية التي نملكها في أدمغتنا عن الناس وعن الأعراق وأطياف وألوان البشر، وإنها ليست صورة جديدة بل قديمة بقدم الإنسان على وجه الأرض، إنها وصف إنساني بامتياز.. حيث ينبذ الشخص من لا يشبهه في اللون والشكل والنَسَب والعِرْق والقومية والجنسية والطبقة الاجتماعية والانتماء الفكري والسياسي.. لينطلق إلى الحُكم على كل من وما لا يشبهه ولو في عقله الباطني، وقد جاءت وسائل الإعلام لتعزِّز تلك الفرضيات في أدمغتنا وتعطي لها أبعاداً وأشكالاً مختلفة.
وإنني في الحقيقة أغبط أولئك الذين تجاوزوا هذه النمطية من التفكير، فيما تتعدد الصور وتكاد تختفي عند أولئك الذين ينفتحون على العالم ويثرون عقولهم بالتعدّدية والتنوع الإنساني.. ولا يأتي ذلك إلا بالتعارف على ما ومَن حولنا باختلاف ألسنتهم ومشاربهم، بالسفر ما أوتينا إلى ذلك سبيلا، بالمشاركة بالفعاليات المتعددة الاتجاهات… ولا يقول أحدكم "إن حياتي مغلقة الجوانب ولا سبيل إلى كل هذا"، فالانفتاح "العقلاني" يمكن من خلال القراءة ومتابعة الدنيا كيف تسير.. وبالتعرف على سكان هذا الكوكب من خلال نعمة الإنترنت، ومن لا يستطيع المشاركة في مؤتمرات وندوات ومحاضرات ودورات عبر الإنترنت؟ كلنا نستطيع هذا حينما نريد.
أتمنى حقاً لو نستطيع الوصول الى هذه المرحلة: أن ننظر ناحية الأفق الأوسع والأرحب من العالم الممتلئ بالألوان والأعراق والأجناس المتعددة.. نحتفي به ونتقبله ونُغيّر نظرتنا إليه كي تتغيّر نظرته إلينا.. ليزداد يقينُنا بأن الكون مساحة شاسعة من الاختلاف والتنوع والثراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.