شعار قسم مدونات

فاقد الدهشة كائن ميت!

blogs - surprise
بعد الشهور الأولى من الطفولة تنتهي الدهشة ويصبح كل شيء مألوفاً وقابلاً للتصديق، ونصبح بعدها جزءًا من العالم الذي لا يندهش إلا أمام الظواهر الغريبة النادرة بغية فهمها، ثم إذا عُرِف السبب زال العجب، وينجلي الانبهار وتخف الدهشة.. ولم يعد هناك ما يدهشنا لأننا فقدنا شيئاً أساسياً وهو أن الحياة لم تعد لغزاً.

في عالم الصغار نرى كل الأشياء بدهشة، فراشة تطير، كلب ينبح، وردة حمراء، سيارة تسير أو طائرة في السماء، نشير إلى كل شيء وكأنه معجزة، ذاك لأن العالم لم يصبح عادة بعد.. نتأمل ونترقب كل شيء. وبرأي ديفيد هيوم (أن الأطفال هم الشهود على الحقيقة) بفعل انتفاء مبدأ العادة.

في مرحلة الطفولة يكون الإنسان أشد رغبة في المعرفة وأكثر قدرة على الاندهاش، فمثلاً في كل مرة يرى فيها أي طفل كلباً للمرة الأولى يصرخ من دهشته (عو عو) وقد يتكرر هذا الصراخ عدة مرات حتى تتلاشى مع الأسف هذه القدرة على الاندهاش بفعل العادة لتبدو الاشياء بعد ذلك واضحة ولها تفسيرها. قد يكون لذلك أسباباً عدة أهمها انشغال الناس بالحياة اليومية إلى حد لا يترك لهم وقتاً ليندهشوا.


يتجلى بوضوح أن فاقد الدهشة كائن ميت، وكما قال سقراط "الذكي من يعترف بجهله أو الذي يعرف انه لا يعرف". يجب أن نتعلم من جديد، وننفض الغبار عن أفكارنا القديمة، ونعيد تكوينها بفعل الدهشة والتحرر من مبدأ العادة

من المعروف فلسفياً أن فاقد الدهشة كائن ميت.. فالعادة تقتل بالفكر الرغبة في المعرفة أما الدهشة فتنزع عن الأشياء أُلفتها وبساطتها، ولهذا يعرف الفيلسوف أنه شخص رفض التعود على العالم.. يقول أرسطو "أن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هي الدهشة" ومن هنا كانت الدهشة أم الفلسفة، وبهذا يتجاوز الفيلسوف الظواهر الغريبة ليُدهش أمام كل الظواهر بل وحتى أكثر الأشياء ألفة واعتياداً، مثلاً دهشة نيوتن من ظاهرة اعتيادية تتمثل بسقوط التفاحة للأسفل بدلاً من سقوطها للأعلى، والنتيجة كانت قانون الجاذبية.

تختلف الدهشة الفلسفية عن الدهشة الطبيعية او الاعتيادية أن الأخيرة تحصل أمام الظواهر الخارقة للعادة أو الغير مألوفة بينما تحصل الأولى أمام المألوف والمعتاد، ويدل ذلك على اعتراف الفيلسوف بجهله وبلوغ أول مرحلة من مراحل المعرفة بإجبار نفسه على طرح الأسئلة ثم البحث عن الإجابة، مستهدفاً تأمل ذاته والعالم من حوله.

قد يكون السبب وراء الخمول الفكري هو عدم القدرة على الاندهاش.. فكلما قلت مرتبة العقل قلت غرابة الوجود، أما القدرة على ذلك فتعنى في أغلب الأحيان ذهاب العقل، لكنها في الحقيقة تدل على ممارسات عقلية واعية، وتفترض في الفرد درجة عالية من العقل.

يتجلى بوضوح أن فاقد الدهشة كائن ميت، وكما قال سقراط "الذكي من يعترف بجهله أو الذي يعرف أنه لا يعرف". يجب أن نتعلم من جديد، وننفض الغبار عن أفكارنا القديمة، ونعيد تكوينها بفعل الدهشة والتحرر من مبدأ العادة.. كما فعل أرسطو وديكارت وغيرهم من الفلاسفة، عليك أن تندهش لتصبح فيلسوفاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.