شعار قسم مدونات

ماذا تفعلُ الكلماتُ في وجه الدّبابات؟

blogs - دبابة
الأسبوع الماضي كنتُ في مقابلةٍ مع فريق "قبس" الثقافي في غزّة، وسألني أحدُهم: ماذا تفعلُ الكلماتُ في وجه الدّبابات؟ لا أذكرُ تحديداً بما أجبته وقتها.. انتهت المقابلة، وذهب الجميع في حال سبيلهم، أما أنا فبقي هذا السؤال جاثماً على صدري كأنه الصخرة التي وضعها أميّة بن خلف على صدر بلال بن رباح وهو يراوده عن دينه!

أجلسُ الآن محاولاً إزاحة تلك الصخرة التي تكتم أنفاسي، ترنُّ في أذنيّ كلمات شهيرة: اليوم تخلصنا من لواءٍ فكريّ مسلّح، فـ غسّان كان يُشكّل خطراً على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائيّ مسلحهذا ما قالته غولدا مائيير تعليقاً على اغتيال الموساد لغسّان كنفاني. غسّان لم يكن فيه شيء يُشبه المُدرجين على قائمة الإرهاب اليوم، كان يسارياً حتى العظم، وسيماً كزيتونات باحة المسجد الأقصى، مريضاً يحقن نفسه بإبر الأنسولين ليعيش! عاش علاقة حُبّ صاخبة وهو متزوّج، كان يُدخّن بشراسة، ويقرأ بنهم، ويكتب كأنه في سباقٍ مع الموت! ثماني روايات، وزهاء ألف مقال صحفيّ، رغم أنه ترجّل في السّادسة والثلاثين من العمر! ولكن الدولة التي هزمت سبعة جيوش عربية في ست ساعات، كانت هشّة من الداخل، ففعل فيها قلم غسّان ما لم تفعله مدافع الآخرين، فقتلته!
يبدو أنّ الكلمات تُثخنُ في الدّبابات!

الإسلام الذي لاذ بسيف خالد بن الوليد، لم يستغنِ عن قصائد حسّان بن ثابت! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أن الكلمة قاطعة كنصل السيف، وحادة كرأس الرّمح، لهذا كان يقول له: اهجُهمْ وروح القُدس معك!

يبدو أنّ الكلمات كانتْ دوماً تأخذ مكانها في المعركة!

يعتقدُ كثير من النّاس أن الصراعات التي استعرتْ منذ فجر التاريخ إلى اليوم هي صراعات سيوف، ورماح، وأقواسٍ ونشّاب، ومنجنيق، وقاذفات صواريخ، وطائرات أف 16.. في الحقيقة هذا هو سلاح الصراع، أما الصراع الحقيقي فكان صراع كلمات وأفكار! كلّ سيف سُلّ، وكلّ صاروخ رُمي، كانت وراءه فكرة وكلمة! لا يهم إن كانت تلك الفكرة نبيلة، أو تلك الكلمة صادقة، المهم أنها كانت وقود الصراع وباعثه!

((اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله))، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله: ((امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله)).

عندما عزم الخوارج على قتال عليّ بن أبي طالب، ذهبَ إليهم عبد الله بن عبّاس ليناظرهم، وكان يومها يلبس أجمل ثيابه، فسألوه باستغراب: ما هذا يا ابن عبّاس؟ فقال لهم: "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطّيبات من الرّزق"! ثمّ سألهم ابن عباس: ما تنقمون على عليّ؟ قالوا: ثلاثاً.. فقال ابن عباس: ما هن؟ قالوا: أمَّا إحداهن، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ ما شأن الرجال والحكم؟ فقال ابن عباس: هذه واحدة. قالوا: وأمَّا الثانية، فإنه قاتَل ولم يَسْبِ ولم يغنم، فإن كانوا كفَّارًا فقد حلَّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ أساساً قتالهم. قال ابن عباس: هذه ثِنتان، فما الثالثة؟ قالوا: ومَحَا نفسه من إمارة المؤمنين، عندما اشترط عليه معاوية أن يراسله بـ "هذا من عليّ بن أبي طالب"، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أمير الكافرين! قال ابن عباس: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.

قال ابن عباس: أرأيتم إن جئتكم من كتاب الله وسنَّة نبيِّه – ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ قالوا: نعم. فقال: أمَّا قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإن الله قد قبل حكم الرجال، أرأيتم قول الله – تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾.. أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صَلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟ قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل. وقال في المرأة وزوجها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾.. فنشدتكم بالله أليس حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟ قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم. فقال ابن عباس: خرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.

ثم قال: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أفتَسْبُون أمَّكم عائشة؟! تستحِلُّون منها ما تستَحِلُّون من غيرها وهي أمُّكم؟ فإن قلتم: إنَّا نستَحِلُّ منها ما نستَحِلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج؟ فنظر بعضهم إلى بعض. فقال: أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

وأمَّا قولكم: محا نفسَه من إمارة المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يوم الحديبية صالَح المشركين، فقال لعلي: (اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله)، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم: (امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله)، فوالله لَرَسُولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – خيرٌ من علي، وما أخرَجَه من النبوَّة حين محا نفسه، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائِرُهم فقُتِلُوا على ضلالتهم، في النهراوان!
يبدو أن الكلمات كانتْ دوماً تُغيّر مسارات الجيوش!

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان