إن الفكر الذي لا تنطفئ نيرانه الحارقة والذي لا تحده حدود ولا سدود مليٌّ في هذا العالم، وأقل الأضرار للمتأثرين به عمود دخانه، فما السبيل لمواجهة الأفكار الحارقة وآثارها؟
إن النار لا تطفئها نارٌ، بل تهيجها وتثيرها، وحثو الرمال عليها يهدئها ويطفئها، فصراع الأفكار هكذا، لا تطرد الفاسدة بمثلها، إنما الأفكار صورةٌ إن أحسنت رسمها ساعدت نفسك في فتح باب الحياة، وإن لم تحسن رسمها لا تحطمها، بل اسع لإخراجها في أفضل حالاتها.
في مقالتنا لن نستخدم مصطلح (الإرهاب) كثيرًا كونه لا يوجد له تعريفٌ واضحٌ يفسر حالاته وممارساته؛ فنسبة كبيرة ممن ذهب لحاملي (الإرهاب) عقولٌ وطاقاتٌ مغرر بها لتحقيق مصالح أصحاب الأيدي الخفية الساعية لمآربها، وسنعتبرهم من حاملي الفكر المنحرف وهم بحاجة إلى تصحيح طريقهم ومصير حياتهم.
تعاني المجتمعات العربية من الفكر الدخيل والضلالي الذي يتسلل إلى عقول أبنائها وينعكس بالسلب على الحياة العامة للأقطار العربية ويُدخلها حروبًا لا تُبقي ولا تذر، فبعض هذا من صناعة الاستعمار والبعض الآخر من صنع أيدينا، فلا حاربنا ما زرعه الأعداء، ولا حافظنا على أنفسنا، لكن الطريق أمامنا والأضواء بأيدينا، نستطيع نفث السراج بالزيت ليضاء النفق المعتم حولنا إن أردنا.
إن الأساس في الحياة أهدافٌ نبيلة، يسعى إلى تحقيقها كل شخص، فعندما لا يستطيع الشاب تحقيق أدنى مقومات الحياة يصبح بين نارين "التعاسة الحياتية والفكر المتشدد". |
تكتوي البلاد العربية من حاملي الفكر المنحرف، فمنهم من يسكن الجبال، ومنهم من يقطع آلاف الأميال ليمارس ضلاله ضد العباد، فيطلق النار هنا، ويفجر سيارة هناك، ويبعث بالانتحاري ليحصي الناس قتلى. إن النظر في أسباب انتشار المتشددين والوقوف عند حقيقة المشكلة ما هو إلا بداية لمواجهة هذا الفكر الجاهلي.
إن الأساس في الحياة أهدافٌ نبيلة، يسعى إلى تحقيقها كل شخص، فعندما لا يستطيع الشاب تحقيق أدنى مقومات الحياة يصبح بين نارين "التعاسة الحياتية والفكر المتشدد"، ومن هنا يأتي دور الدولة في حماية شبابها ومراقبة مراحل تقدمهم العمري لتحقيق الحياة الكريمة وتوفير فرص تطوير البلاد لهم، والاستفادة من طاقاتهم، وبث ونشر الفكر المعتدل المتوازن الذي يأمن الشعوب من المدخلات السيئة لضمان مخرجاتٍ إيجابية.
في سياق فكرة الموضوع نضع قطاع غزة كمثالٍ في التعامل مع المغررين للتخابر مع العدو الصهيوني، حيث فُتح لهم باب التوبة مع إعطائهم الأمان الكامل، ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة لعدد من سلموا أنفسهم لوزارة الداخلية فإن نتائج تعاطيهم مع الأجهزة الأمنية بارزٌ لا ينكره أحد، فمن هذه النتائج: تطوير المقاومة لسلاحها دون وجود معلومات للاحتلال عن مدى القدرات التي وصلت إليها، وكذلك عدم تمكن العدو الصهيوني من معرفة معلومات عن جنوده الأسرى في قطاع غزة، ومع وجود النتائج الكثيرة نكتفي بهاتين النتيجتين دليلًا على نجاح أسلوب استقطابهم وعودتهم عن ممارساتهم الخاطئة.
وسبق أن حققت الجزائر عام 1999م نتائج إيجابية في إقرارها لقانون "الوئام" الذي منحته للمقاتلين المتحصنين في الجبال المقاتلين للجيش الجزائري، حيث سلّم 2500 مقاتل نفسه، وكذلك عام 2005م أثناء إعلان "المصالحة الوطنية" حيث سلّم 8500 مقاتل أنفسهم، وأدّى ذلك إلى وقف الحرب الأهلية التي أدّت إلى مقتل 200 ألف جزائري وتراجع الأعمال المسلحة في الجزائر.
وعملت أيضًا السعودية على إقرار قانون "المناصحة" الذي يواجه الفكر المتشدد بالفكر الرشيد، وعملت على تشكيل الجمعية واللجان الفكرية المتخصصة في ذلك.
وأخيرًا، طَرْحُ تونس قضية فتح "باب التوبة" لمرات عديدة منذ عام 2014م يأتي ضمن فهم الساسة التونسيين لخطورة استخدام القوة ضد الشباب المُغرر، وكذلك فشل التصويت على مقترح سحب الجنسية التونسية عن كل تونسي ملتحق بالحركات المتشددة الذي قُدّم من قبل لجنة الأمن والدفاع داخل البرلمان.
ينتظر الكثير من الملتحقين بالحركات المتشددة أن تفتح لهم الأوطان أحضانها، وإن استقبالهم يعد أمرًا واجبًا بدلًا من انتظارهم بالسياط والاستعداد لجلدهم. |
ومن المؤسف تراجع الرئيس التونسي "الباجي قائد السبسي" عن قرار باب التوبة بعد القليل من المظاهرات التي نادت بتطبيق قانون محاربة (الإرهاب) على كل العائدين. ومن المفارقة العجيبة أن الخوف يأتي على تونس من داخل أراضيها أكثر من خارجها، حيث أن عدد المقاتلين خارج الحدود قُدّر بـ 3600 مقاتل، بينما من تم منعهم من السفر للالتحاق بالحركات المتشددة قُدّر عددهم بـ 8000 شخص، وتُعطي هذه المقارنة بين الرقمين أن الأفضل لتونس فتح باب العودة للمقاتلين التونسيين ودمجهم مع المجتمع والتحدث إلى الشعب التونسي عن فشل هذه الحركات ذات الأهداف الخبيثة قبل تزايد أعداد من يريدون الخروج أو فتحهم لجبهات داخل تونس نفسها.
ينتظر الكثير من الملتحقين بالحركات المتشددة أن تفتح لهم الأوطان أحضانها، وإن استقبالهم يعد أمرًا واجبًا بدلًا من انتظارهم بالسياط والاستعداد لجلدهم. إن العمل على التوعية اللازمة لهم ووضع القوانين الصارمة ضد من يعود لممارساته، وضخ الأموال لتعليم وتثقيف وتحقيق حياة كريمة للمجتمعات بديلًا للأهداف الواهية المتمثلة بمحاربة (الإرهاب) سيضمن الاستقرار للأوطان والأمان للشعوب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.