أنا لا أعلم توصيفًا دقيقًا لهذة الحالة، لكنها خليط عجيب من حزنٍ وفرحٍ. ومن يأسٍ وأملٍ، من حنينٍ لأيامٍ خلت، ومن هروب تامٍ منها في الوقت ذاته، وخليط من تيهٍ وضياعٍ وقلة حيلة! يقولون إن الجمال يكمن في البدايات، ويقل تتدريجيًا حتى يتلاشى، ربما هو ذاك. ربما يناير قبل ستة أعوامً كانت جمالنا الذي اختفى تمامًا. ينايرالذي شعرنا فيه -ولو خلسةً- أننا نستطيع أن نغير الكون ولو لأشهرِ قليلةِ. إننا نستطيع أن نهتف ونصرخ ملء أفواهنا وقلوبنا وعقولنا "ارحل"! كلما شعرت بالبرد ينخر في عظامي وقلبي تذكرت ما قاله الشاعر:
هذه ليست لطميات ولا كربلائيات ولا بكائيات، لكنها حديث النفس الذي لا ينتهي منذ أن بدأ قبل ستة أعوام، وهو على أي حال ليس من باب الندم على الثورة ولا الردة عنها. لكن لعله من باب محاولة الفهم لما وصلت إليه الأمور. |
"كانت تداعبنا الشوارع بالبرودة والصقيع ولم نفسر وقتها
كنا ندفئ بعضنا في بعضنا ونراك تـبـتسمين ننسى بردهـا".
هكذا كنا تمامًا.كان هناك شيء ما أكبر من لسعات البرد وقطرات المطر، شيء ما يشبه الأحلام العابرة. شيء ما يشبه السراب الذي يحسبه الظمآنُ ماء، فيهرول نحوه ثم فجأةً يكتشف أنه مجرد سراب. كثيرًا ما أحدث نفسي: ماذا لو أننا حذفنا يناير من ورق الرزنامة؟ ومن العام كله لعلنا حينها نستطيع أن نحذفه من ذاكرتنا، تبدوفكرة مجنونة وغير منطقية على الأقل لو فعلتها أنا، هل تفعلها أمهات الشهداء؟! بالمناسبة هل ينبغي علينا التفكير دومًا في أمهات الشهداء وماذا فعلنا لهم وماذا نفعل لهم؟ ما جدوى كل تلك الأسئلة وكل هذا التفكير، إنه يجلب مزيدًا من التعب والشتات!
هذه ليست لطميات ولا كربلائيات ولا بكائيات، لكنها حديث النفس الذي لا ينتهي منذ أن بدأ قبل ستة أعوام، وهو على أي حال ليس من باب الندم على الثورة ولا الردة عنها. لكن لعله من باب محاولة الفهم لما وصلت إليه الأمور، وكيف يمكن لثورتنا التي عشناها وكانت لنا كمشكاةِ أن تصل لهذا الطريق المظلم؟ هل تكالب على الثورة أعداؤها أم تكالب عليها ثوارها؟ هل كان ينبغي أن يتهيأ الشعب للثورة أكثر؟ كيف يمكن تهيئة الشعوب أصلًا؟ إذا حرم الإنسان من الكرامة والحرية والحياة الآمنة فما الذي ينقصه لينتفض؟
بعد ست سنوات عجاف يأكلن ما قدم لهن من دماءٍ وتعبٍ ومن زهرة أعمارنا لا شيء نقوله سوى كلمة قالها العم التونسي: "هرمنا"، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ومن ثقلٍ وهوانٍ.