شعار قسم مدونات

فردوسنا المفقود

BLOGS - syria people
يرى "إيريك فروم" أن الأسطورة في التاريخ تشبه حلم الفرد، ومثلما يكون الحلم هو أسطورة الفرد، فإن الأساطير هي أحلام الشعوب.

فروم، المحلل النفسي، قال رأيه هذا وهو يشتغل على دراسة أثر الأساطير في حياة الفرد والشعوب، فماذا عساه يقول الباحث اليوم عن أثر أسطورة الحرية على السوريين وقد سطروا ملاحمها طيلة 6 سنوات مضت، ليكتشفوا أنها الفردوس المفقود؟!

وصف واقع الحال لا يعتبر تشاؤماً وإن كانت معطياته مؤلمة وتبعث على التشاؤم، هو وصف لحال واقعي لا أكثر، نذهب إليه لنشخص العلل التي أصابت حلمنا، وأجهضت محاولاتنا لتحقيقه، وفحص أدواتنا التي اتخذناها وسائل عمل لإنجازه، وتسمية الأشياء بأسمائها، فالخيانة ليست هي الفشل، وإنما تسميته بأسماء أخرى ترفع المسؤولية عن الفاشلين، وتمنحهم المزيد من الفرص للاستمرار في إفشال محاولاتنا لتحقيق الحلم.

سوريا، التي وصفها الشاعر رياض صالح الحسين ذات فجيعة بأنها التعيسة.. كعظمة بين أسنان كلب.. باتت اليوم أقسى من أي خيبة كان يتوقعها متشائم بائس.

لا تحقق الشعوب أحلامها وأهدافها مهما كانت هذه الأهداف محقة ومشروعة ونبيلة بانتهاج التلقائية والعشوائية، وإنما باتباع الاستراتيجيات والخطط المنظمة والمتقنة، وباللجوء إلى وسائل مرنة وتكتيكات قابلة للتغيير تبعاً لتغير المعطيات والظروف، هذا ما يمليه منطق التعامل مع التحديات، وحين تكون هذه التحديات معقدة ومتشابكة على نحو خطير للغاية كما هو حال التحديات التي واجهها شعبنا السوري خلال سنوات ثورته، فإن ضرورة التعامل معها بحكمة وذكاء، وشجاعة وصلابة، لا يكون مجرد عمل مهم، بل هو استحقاق واجب، تمليه المسؤولية عن مستقبل وطن وشعب، وطن غدا ممزقاً بلا أي أمل جدي باستعادة وحدته، حتى الشكلية، وشعب نزف وينزف يومياً، وصار مهدداً بوجوده، بعد أن تقطعت روابط مكوناته الوطنية، وصار مللاً ونحلاً تذروه رياح المحتلين والمتطرفين والمهووسين بأحقاد التاريخ وشهوة السلطة.

"سوريا الحرة الديمقراطية" كانت حلم ثوارها، وغدت الآن فردوساً مفقوداً لا وجود له إلا في مخيلة القليل المتبقي من ثوارها القابضين على جمرة حلمهم، وأول شروط الحفاظ على بقية حياة لهذا الحلم هو الاعتراف بأنه صعب للغاية، فحدود الوطن لم تعد قائمة إلا في الخرائط القديمة.

شمالاً.. مُسحت خطوط الحدود بأحذية جنود أتراك يبحثون عن موطئ قدم يمكنهم من منع إقامة كيان كردي يهدد أمنهم القومي، وآخرون أميركان أقاموا ويقيمون قواعد تمنح بلادهم قوة اللعب بمصير المنطقة الغارقة في فوضى المليشيات، فيما تمكن مرتزقة المليشيات الكردية، وأرهابيو التنظيمات المتطرفة الوافدون من كل فج عميق من هزيمة حبر خارطة سايكس/بيكو إلى الأبد.

ليس في الشمال فحسب، وإنما في الشرق أيضاً، حيث لا صوت يعلو هناك إلا صوت عصابات عنصرية إرهابية قومية وطائفية، فلا عراق على الحدود ولا سوريا، ولا شعوب أيضاً، ثمة لاجئون فقط، تتناهبهم أعاصير من كل صنف مميت، ووحدها المليشيات تعيش هناك عصر التداول على حكم المقهورين، كما تعيش زمن الاستثمارات العابرة للحدود، كما لو أن هذه المناطق ملاذات إرهابية آمنة!
غرباً..

يتكدس بشرٌ سوريون يخافون من الهمس بأسمائهم وترتجف أياديهم وهم يصرحون عن بطاقات هويتهم أمام جنود أجادوا التعايش مع الإقامة على حواجز تفتيش، وتعفيش، وخطف وابتزاز وفديات، وغدت الحدود هناك باتجاه واحد ولصنف واحد من البشر، صنف إرهابي طائفي يهتف لتحرير القدس وظهره لها، فيما يقذف نيران البنادق بسخاء إلى صدور من سكن هذه الأرض منذ آلاف السنين.

سكان هذه البقعة من أرض الرعب لم يخب ظنهم يوماً بماء نهرها بردى، ونبع واديه العريق، لكنهم أيقنوا أخيراً أن "ثارات الحسين" لها من القدرات ما يكفي ليس لقطع الحليب عن أطفال مضايا والزبداني فحسب، بل لمنع قطرات الماء عن أهل الشام أجمعين.

وللجنوب حكاية مع الحدود تكاد تجعل الحليم حيرانا.. فهناك حيث مهد الثورة، لا يدري أهل سهل حوران اليوم، الذي منه هلت البشائر ذات ربيع، يد من فوق، لكن ما يعلمه الجميع علم اليقين أن كل الأيادي مغلولة، بقيد الشقيق الجنوبي، والجار العدو المحتل.

وعلى امتداد المساحة بين كل هذه الحدود الغائمة.. يتلاطم موج أمراء الحرب، عالياً شديداً على ما تبقى من شعب جائع مكلوم ثار يوماً على أمير حرب واحد، ورغم أن حلب سقطت فلم نعثر على من يبكي كالنساء على مُلك لم يحافظ عليه كالرجال!

سوريا، التي وصفها الشاعر رياض صالح الحسين ذات فجيعة بأنها التعيسة.. كعظمة بين أسنان كلب.. باتت اليوم أقسى من أي خيبة كان يتوقعها متشائم بائس، لم تعد لأهلها الطيبين الثائرين، ولا حتى لأهلها من قاتلي أشقائهم الثائرين، باتت فشلاً كبيراً كاشفاً لسقوط الإنسانية، وما يثير الاستغراب أن سوريا هي الفشل الوحيد الذي يتسابق الكثير من المحتلين لتبنّيه، في سابقة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً!
هذا واقع حال فردوسنا المفقود، ولكن.. ألم يقل أبو البقاء الرندي: هي الأمور كما شاهدتها دول.. من سرّه زمن ساءته أزمان؟

فردودسنا المفقود سيبقى كذلك، مفقوداً وربما ضائعاً إلى الأبد ما لم يتحرك السوريون وقادتهم لإحياء مشروع ثورتهم الوطني الديمقراطي الرافض لكل إملاء خارجي.

لقد ساءت شعبنَا الثائر أزمانُ إرهابيي النظام والدول الطامعة ومرتزقة مليشياتهم.. ولعلها جولة باطل، إن أحسن الشعب الصابر المتمسك بحلمه استعادة زمام أمره، وعاد من غيبوبته إلى ساحة الفعل، وامتلك إرادة التعبير والعمل على أهدافه، ورفض ما يحاك له من مشاريع الأعداء والأصدقاء على حد سواء.

إن استمرار استسلام قادة السوريين لإرادات الآخرين يعني دون شك استمرار مأساتنا، وما من عذر يبرر هذا الضعف الذي يبدو عليه قادة الثورة والمعارضة في الدفاع عن وطنية مشروعهم وحقهم الحصري في تقرير مصيرهم، وإذا كانت مشورة الحلفاء فعلاً مبرراً ومقبولاً، وربما مطلوباً في السياسة، ولا سيما في ظروف كتلك التي تمر بها ثورتنا، فإن الرضوخ لتصورات وخطط هؤلاء الحلفاء، وتجاوزاتهم التي تصل في أحيان كثيرة حد الإملاءات، لا يمكن فهمه ولا قبوله ولا تبريره، ومدان كل من يقبل بأن يكون مصير السوريين وثورتهم رهينة بيد الآخرين حتى لو كانوا أوثق الحلفاء.

فردودسنا المفقود سيبقى كذلك، مفقوداً وربما ضائعاً إلى الأبد ما لم يتحرك السوريون وقادتهم لإحياء مشروع ثورتهم الوطني الديمقراطي الرافض لكل إملاء خارجي وتطرف وعنصرية واحتلال وغلبة فئة على فئة، ولا بد من الإسراع لإنجاز استحقاق الوقوف بوجه من شوه صورة ومسار ثورة الشعب الصابر، عندها فقط سيكون لثورة الحق جولتها وكلمتها، وهذا استحقاق اليوم وليس الغد، فوقت شعبنا من دم.

ربما صارت أحلام بعض الشعوب مجرد أساطير بين طيات الكتب، ولكن السوريين الأحرار، وبعد كل هذه التضحيات.. لا يقبلون بأقل من أن تتحدث أجيالهم القادمة والبشرية كلها عن شعب صار أسطورة في إصراره على حلمه وتحقيقه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.