وما مواقع التواصل الاجتماعي إلا نموذج مصغر لواقعنا المعاش، والذي يستحيل فيه الاختلاف إلى خلاف جذري، فلا يكاد يخلو أي موضوع مثار للنقاش سواء أكان سياسياً أو دينياً أوفكرياً أو رياضياً أوحتى فنياً، دون أن ينجرف الحوار ويأخذ منحنى آخر ليمتد كسرعة امتداد النار في الهشيم، فيصل الحوار الثنائي الجانب بين فكرين مختلفين إلى أفراد عائلاتهم فيتم كيل السباب والشتائم المجانية لهم ودونما أي وجه حق، وليأخذ النقاش لاحقاً بعداً جغرافياً لتمتد الإساءات للبلدان أيضاً، ومن المفارقات الغريبة كذلك التشكيك بمصداقية بعض القنوات الأخبارية أو الصفحات الدينية أو الفنية ومن ثم متابعتها لكيل سيل من السباب والشتائم وكأنها ورد يومي للتنفيس عن التراكمات الدفينة مجهولة الأسباب.
الحرية لا بد أن تكون مقترنة بالمسؤولية ولا تكون مطلقة، والحوار كذلك له آداب وأخلاقيات، ولا يفترض به أن يتجاوز المساحات الفكرية، لينتقل إلى المساحات الشخصية لأنه حينها يعد إفلاساً فكرياً. |
في حين أن زر إلغاء المتابعة يعد خياراً متاحاً دائماً، عوضاً عن تعريض الآخرين للتلوث البصري، فما تستحسنه أنت قد يستقبحه غيرك، وما لا تستسيقه قد يعد مقبولاً لدى الآخرين، فالتفاوت الفكري حقيقة لا مناص منها والاختلاف الإيجابي هوأمر صحي، فأنت حر كلياً في أن تختار الطريق الذي تريد، وأنت حر حينما يتبين لك الصواب بأن تحيد، فلا تكترث بآراء الجماعات ولا تعتد بآراء الأفراد، بل
حافظ على حقك المشروع في خوض التجربة ورسم قناعتك بنفسك، ولا تنجرف كالريشة مع التيار، وكون أنت تيارك الخاص، فمن حقك بأن تخطئ في التقدير، ومن حقك بأن تلتمس جادة الصواب لكي تتطور فكريا، فلا وجود للحقيقة المطلقة بقدر ما تكون نسبية، والحرية هي كالدواء، لذا يجب بأن لا تصرف حتما لصغار العقول الذين لم يصلوا بعد للنضج الفكري لكي لا يساء استخدامها، لأن المجتمع هو من سيعاني من أعراض جانبية من بينها انحدار سقف القيم وغياب آليات وأبجديات الحوار واعتياد وتقبل كل هذا الانحدار الأخلاقي، لكي لا تصنف سلوكياتهم "كحالة" شاذة بل "كعادة" مستساقة في ظل غياب الرادع الذاتي والأخلاقي.
فالحرية لا بد أن تكون مقترنة قطعاً بالمسؤولية ولا تكون مطلقة بأي حال من الأحوال، والحوار كذلك له آداب وأخلاقيات، ولا يفترض به أن يتجاوز المساحات الفكرية، لينتقل إلى المساحات الشخصية لأنه حينها يعد إفلاساً فكرياً ويبرز مدى هشاشة الرأي، ويكشف حقيقة الافتقار لأبسط معايير وأسس وأخلاقيات الحوار.
كما أن المعارضة الدائمة والتأييد الدائم هي مواقف متعصبة وغير حيادية، بينما تغيير الآراء وتفاوتها بتغيير الأحداث والمواقف والمعطيات سلباً أوإيجاباً ينم عن نضج فكري، وفي أتون الصراع القائم من أجل احتكار الحقيقة لا بد من إدراك ضرورة إخراج المفاهيم من حيز القوالب الضيقة والجامدة والنظر إلى منهجية الاختلاف كدور تكاملي لا كبعد تصادمي، وأدرك حدود الحريات المتاحة ووجوب تلاشيها فور ابتداء حرية الآخرين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.