شعار قسم مدونات

في هَوى مَكّة

blogs- Kaaba

يحدثُ أن يتعلَّقَ الإنسانُ بالأماكنِ التي تحمِل شيئاً منه ومن ذكرياته؛ أتعلّقُ ببيتنا القديم، وشارعٍ فرعيٍّ عشتُ فيه، أتعلّقُ بزوايا مدينتي؛ بمطلّاتها وأماكِنِ جلوسها. أتعلقُ بالمكان لتعلّقي بما حدث فيه، وبالأيام التي مرّت على بها. لكنّي إلى جانِبِ ذلك أتعلّقُ بأماكنَ لم أرَها بناظِرَيَّ من قبل، ولم أرحِل أليهِا جسداً حتى اليوم. أتعلّقُ فيها وكأنِّي قضيتُ بها أجملَ أيّامي، وكأنها تحمِل من القصص والذكريات ما لا يغيبُ عنّي. أتعلّقُ بمكّة وكأني ابنةُ دروبها، والمترددةُ على زيارتها. كيف لا، ومكّة تحمِل ما لا تحمله باقي البلاد من إرثٍ وحكايا وميلاد. 

لم تكُن مكةُ بلدةً عابرةً يوماً، لم يكن التعلّقُ بها محض صدفةٍ بلا ميعاد؛ لي في مكّة نصيبٌ وذكريات. كيفَ لمكةَ أن تمرَّ بلا وقفة أشواق؟ كيفَ لذاك الوادي الذي باتَ أمَّ القرى أن لا تذرف له العبرات حنيناً. أن أذكرَ مكّة يعني أن تطوفَ الرّوحُ شوقاً إلى حيث هاجرَ وإسماعيل، هناك في الوادي غير ذي الزرع، في الوادي المهجور بلا أُنْس، في الأرضِ القاحلةِ بلا ماء، في الأرضِ التي تقتربُ إلى العراء. هناكَ حيث استسلموا لأمرِ الله وقضائه، وكم مِن قضاءٍ في عمرِنا نظنٌّ بهِ سوءاً وإذا بهِ يفجِّرُ ينابيع الرجاء؟ كلّما تخيلتُ هاجر وهي تقول لإبراهيم – عليهما السلام – عن الله – عز وجل – بيقينٍ وإيمان: "إذاً لن يُضيّعنا" ذكّرتُ نفسي: "ما دام الله أذِنَ في وجودي في هذي الحياة، إذن لن يُضيّعني. لكن حتى لا أضيع في هذا الكون فعليَّ أن أسعى تماماً كما فعلت هاجرَ بحثاً عن ماء، عليَّ أن أحاول مرةً واثنتين وثلاث وأكثرَ حتى يفيض الفرجُ وأصلَ ما أريد".

أشتاقُ أن أزور مكة، أن أطوفَ في البيت سبعاً بل أكثر، أن أسجدُ عند الأعتاب، أن أناجي الله في حضرةِ هذا المكان وهذي الشعائرِ. أشتاقُ أن أنظرَ في الوجوهِ التي تحبُّ الله، في العيون التي تدركُ أنَّ الدعاءَ مُستجاب.

إذا ذُكِرَت مكة فكأنّي بإبراهيمَ – عليه السلام – يؤذِّنُ في مكانٍ لا ناسَ فيه، فيعدهُ الله بالبلاغ، فيثقُ بوعدِ الله. كلّما نظرتُ في النّاس القادمةِ إلى مكة، وكلما رأيتُ عيونهم الممتلئة بالأشواق، وكلما شاهدتُ الأفواج المتزاحمة على الأبواب قلت: "يا ربّ! علّمني أن أثقَ فيكَ هذي الثقة. أن أبلّغَ الخيرَ للنَاس حتى وإن ظننتُ أن لا إجابة. يا ربّ! علَّ إبراهيم عليه السلام لم يسمع نداء التلبية من الأفواج القادمة إلى هذا البيت الذي رفع قواعده، لكنّ هذه التلبية كانت في علم الغيب عندك؛ فما علمته في علم الغيب خيراً لنا فيسرنا له ويسّره لنا وارزقنا القوة في الثبات عليه". 

مكةُ أرضُ التسليم لله، أرضٌ بُنيَ فيها الإنسان، أرضٌ شهدت الدعوة منذ بدايتها، أرضٌ سمعت صوتَ الشركِ والنفاق والإيمان، أرضُ كانت حاضرةً يومَ الفتح وعندَ المعجزات. أشتاقُ لمكةَ ولي فيها ذكريات، ذكرياتٌ لم أكن حاضرةً فيها جسداً، لكنَّ الروح تستحضرها صبح مساء. 

كلّما نظرتُ للناس في مكة يطوفون حول البيت، وفوقهم بيتٌ معمور، يعلوهُ عرش الرحمن، استشعرتُ الهيبة التي تربِطُ الأرضَ بالسماء. يا للقَدرِ الذي تتملكه أيها الإنسان كلما طفتَ حولَ ما أراد الله لكَ أن تكون فيه، يا للعظمة التي تتنزّل على روحكَ كلّما أدركتَ المسارَ الذي أتيت هذي الحياة كيف تكونَ فيه. 

أشتاقُ أن أزور مكة، أن أطوفَ في البيت سبعاً بل أكثر، أن أسجدُ عند الأعتاب، أن أناجي الله في حضرةِ هذا المكان وهذي الشعائرِ. أشتاقُ أن أنظرَ في الوجوهِ التي تحبُّ الله، في العيون التي تدركُ أنَّ الدعاءَ مُستجاب، أن أسمع اللهجات على اختلافها، واللغات على تباينها، والأصواتَ على تجانُسها. أشتاقُ أن أدخلَ مكةُ مؤمنةً بهذا الجانب الرّوحانيّ للإنسان، بالمعنى الذي نخاف أن نفقده أمام ما في الحياة من مادة صلبة. في مكةَ وأمام البيتِ ستأتِ اللهَ فرداً ولو كنتَ وسطَ الزحام، ستأتِ الله بأفكارك ومشاعركَ ولو كان كلّ الناس حولك، ستستشعرُ بالمعاني منفرداً ولو تكلّم كل الناس معك. أدمِنُ النظرَ إلى صورِ الكعبة الشريفة وأتأملُ هذا البيتَ الذي رُفعتُ قواعِدهُ بإذن الله. كم شهدَ هذا المكان من أمنيات؟ كم كان فيه من فرجٍ ووصلٍ وعطاء. كم من إنسانٍ اكتشفَ في هذي الأرضِ مقامه، وكم من صادقٍ أخذَ في هذا المكان عهده؟.

عندما خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلّـمَ – من مكة رويَ أنَّهُ التفت إليها مودّعاً وقال: "والله إنك يا مكةُ لحبيبة، ولولا أنَ أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرَجْت"، وأنا أردِدُها اليوم سرَاً وجهراً: "والله إنكِ يا مكة لحبيبة، ولولا أن حالَت الظروفُ عنكِ ما تأخرت". وهنا أستحضرُ ما قاله د. محمد رفعت في هوى مكة: 

"قلبي يذوب إليكِ من تحنانهِ، ويهيمُ شوقاً في رُباكِ ويخضَعُ
فإذا ذُكِرْتِ فأدمُعي مُنهَلَّةٌ، والنَّفسُ من ذكراكِ دوماً تُولَعُ". 

إلى أن قال في نهاية قصيدته ما أختمُ به فيضَ أشواقي: 
"ربّاهُ أوصِلني لمكةَ عاجِلاً؛ فالنَّفسُ تَلهَفُ والعيونُ تدمعُ". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.