شعار قسم مدونات

حرية الإثم في الاسلام!

blogs- الدعاء
كيف يكون هناك حساب في الآخرة دون أن يكون للإنسان مطلق الحرية في أن يختار أن يعصي أو أن يختار أن يعبد؟! كيف تُقام الحُجَّة له أو عليه من قبل الله عز وجل خالق الأرض والسماء دون أن يكون الإنسان قد جاهد في نفسه وفِي مجتمعه بين خير وشر وبين حق وباطل! كيف لا والضعف والقابلية للإثم مجبولةٌ فيه، فعقله وقلبه وجوارحه في منتهى القابلية للتغير فهكذا خُلق الإنسان ومن يعرف الإنسان أفضل ممن خلقه؟ لا أحد!
 

حقيقة الإنسان أنه خُلق في الأصل ليخطئ ويصيب ويتعلم من خطأه، وإلا لماذا سمي إنساناً من النسيان الذي هو ضعف، والضعف سمة أساسية في الانسان. قال تعالى في سورة النساء "يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً".

هناك تيارات في الإسلام قديمة وحديثة ركزت وتركز على الأهمية المطلقة على الشكل في الإسلام على حساب الجوهر، ركزت على حركات الجوارح أكثر بكثير من حركات القلوب، ركزت على العقاب والتشنج والحرص الشديد على مظاهر الإسلام ونسوا جوهره والحرص على روح الدين وفهم العقيدة رغم أن القرآن الكريم وسنة النبي الكريم وصحابته الكرام علمونا شيء آخر، ومن جوهر فهم الدين أن الإثم جزءٌ لا يتجزأ من الإنسان! لو فهمنا كلام الله عز وجل في القرآن الكريم لرأينا أكثر فأكثر رحمة واسعة وفضاءً رحباً لا نهاية له في فلسفة الخلق ومغزى العبودية لله الواحد.
 

كان النبي المصطفى يعلم أن الخطأ والإثم سمتان أساسيتان في الإنسان، ويعلم لأن الله علمه أن الشيطان الرجيم يجري بالإنسان مجرى الدم بالعروق!

تبدأ الحكاية عندما خلق الله عز وجل الإنسان وكرمه وقدمه للملائكة، وحاورهم، وقال لهم "إني جاعل في الأرض خليفة"، فأبدوا ملاحظتهم وهي أن هذا المخلوق قد يجلب الدم والفساد، فقال لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" فأقام الحجة عليهم! الله عز وجل الذي خلق الكون وكل ذرة من ذرات هذه الملائكة فتح لهم المجال ليحاوروه، لم يؤنبهم ولَم يعاقبهم، كيف لا وهو الحليم الخبير وهو الرحمن الرحيم، هكذا عرفنا ربنا عن نفسه عز وجل.
 

كانت حجة الملائكة الأخرى "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" فكانت حجة الله عز وجل "إني أعلم ما لا تعلمون" لم يقل لهم خلقتكم وجبلتكم على عبادتي فلا تقدرون على عصياني، بل أوجز ذلك في علمه الذي لا يعلمون، ما أحلمك وأرحمك يا الله! أراد أن يخلق إنساناً يصل إليه بعد جهد وشقاءْ، إن هذا لهو الإيمان العظيم الذي يصل إليه الإنسان بعد كل مغريات الدنيا ووازع النفس والشيطان هذا الإنسان ضعيف، خطاء، وخير الخطائين التوابون الذين يرجعون إلى الله.

إن معرفة الله أكثر وأكثر بعد جهد وشقاء هي سنة الله فيمن يحب! كيف لا وحبيب الله عز وجل محمد -صلى الله عليه وسلم- مات أبواه وهو صغير، كان راعي غنم، عاش يتيما، ولاقى من صنوف البلاء من قومه، وكانت حياته مليئة بالأحداث، ما سر منها يطوي ما ضر، كانت أحداثا كؤود! حاصره قومه هو وعشيرته وجوعوه وأهله وقتلوا أصحابه فماتت زوجته بعد الحصار ثم مات عمه الذي رباه، وهرب متخفيا للمدينة، ومن ثم اقترب أتباعه من الهلاك في بدر لولا عناية الله.
 

وما حدث له في أحد عندما أوشكوا أن يقتلوه بعدما نكث فريق من الصحابة الأمر واحتفلوا قبل النهاية، وموقفه من عشرات الآلاف الذين حاصروه في المدينة المنورة وأوشكوا على الفتك به لولا تدخل الله! وحياة مليئة بالصعاب، فهذا أحب البشر إلى الله، عليه أن يدخل في سنة الله المدبر، لا ارتقاء إلا بابتلاء!
 

كان سنة الإسلام وما زالت في التعامل مع البشر هو بالأخذ بأيديهم إلى شاطئ البر والخير ولم تكن أبدا بالضرب على أيديهم وإن كان البعض الآن يظن ذلك.

لم يكن سيد البشر خطاء ولكن كل من حوله كان، فكيف كانت سنته معهم وتعامله معهم، ونور الله يضيء صدره وقلبه وكان خلقه القرآن، وكان رسولاً اصطفاه الله من كل البشر على مر العصور، كان النبي المصطفى يعلم أن الخطأ والإثم سمتان أساسيتان في الإنسان، ويعلم لأن الله علمه أن الشيطان الرجيم يجري بالإنسان مجرى الدم بالعروق!
 

لم يضرب عليه الصلاة والسلام امرأة قط، لم يعذب أحدا قط، لم يسرق قط، لم يجرح قلب أحدا قط، كانوا يسمونه الصادق الأمين قبل بعثته، أتاه أعرابي وشد رداءه شدا قاسيا شديدا جرحه فيه، فابتسم المصطفى وحاوره ولم يؤنبه، أتاه زناةٌ اعترفوا بذنوبهم فصدهم حتى عادوا إليه وعادوا، أتاه خونة فسامحهم، أتته قاتلة عمه حمزة فاغرورقت عيناه الشريفتان وتركها، بعد أن تابت، وأتاه من قتل عمه بالحربة فتركه بعد أن تاب، أتاه المئات ممن عذبوا أصحابه وقتلوا المقربين إليه فتركهم، حيزت له الدنيا فأعطى وأعطى منها ولم يأخذ منها شيئا.
 

كانت سنة النبي في التعامل مع الآثمين، سنة رحبة واسعة، لم تكن رحمته تنبع عن ضعف بل كانت تنبع عن قوة هائلة، قوة الإيمان بالله، وبعدالة السماء حتى في أضعف حالاته الظاهرة عندما كان طريدا شريدا، قال لصاحبه، لا تحزن إن الله معنا! كان سنة الإسلام وما زالت في التعامل مع البشر هو بالأخذ بأيديهم إلى شاطئ البر والخير ولم تكن أبدا بالضرب على أيديهم وإن كان البعض الآن يظن ذلك، كان بعض الصحابة يشرب الخمر قبل ساعة أو ساعتين من الصلاة حتى يذهب مفعول الخمر ليذهب ليصلي خلف رسول الله، حتى جاء الأمر بالتحريم، كان بعض الصحابة سارقين أو زناة أو حتى خونة! وكان تعامله معهم تعامل حبيب ولم يكن أبدا تعامل حسيب، كيف لا وهو من سيشفع لهم عند الحوض في الْيَوْمَ الآخر..
 

وهكذا كان محمد، وهكذا تعلم أصحابه منه فعلا وممارسة قبل أن يكون قولا وحديثا، وهكذا كان الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي كان كافرا يحارب المسلمين، يعبد الأصنام والحجارة، تحول هذا الرجل القوي الشديد إلى أعظم الرجال الذين عرفهم التاريخ، وأكثر الحكام عدلا وسماحة لأنه تربى على يد محمد، قال عبد الله بن مسعود "ما زلنا أعزةً منذ أسلم عُمر، كان إسلامه فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمةً، وما نستطيع أن نصلّي بالبيت حتى أسلم عمر".
 

عقاب المخطئين والآثمين لم يكن أبدا أمرا أساسيا بالدِّين، فالتركيز على زرع الخير في النفوس، وتفهيم الناس أصول دينهم، والرفق واللين بالتعامل مع الناس كفيلٌ بهداية البشر واجتثاث الشر والفتنة.

يروي ابن كثير في تفسيره أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- افتقد رجلًا من أهل الشام كان يحضر مجلسه، فقال للصحابة: ما فعل فلان بن فلان؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، تتابع في الشراب-أي الخمر- فلم نره منذ أيام، فدعا عمر كاتبه فقال: أكتب "مِن عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلامٌ عليك، أما بعد: فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير". ثم قال لأصحابه: أدعو الله لأخيكم أن يقبل على الله بقلبه، ويتوب الله عليه! فلما وصله كتابُ عمر، جعل يقرأه ويردده في نفسه ويقول "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب"! قد حذرني عقوبته، ووعدني مغفرته، فلم يزل يرددها على نفسه وهو يبكي، ثم أقلع عن شرب الخمر وتاب وحسنت توبته. فلما بلغ عمر خبره قال لأصحابه: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخًا لكم زلّ زلّة، فسددوه وادعوا الله له أن يتوب، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه.

وقصة أخرى، عن عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس ليلة مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالمدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة فقال عمر -رضي الله عنه- وأخذ بيد عبد الرحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ فقال عبد الرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه نهانا الله عز وجل فقال "ولا تجسسوا" فقد تجسسنا فانصرف عمر عنهم وتركهم.
 

وهذه القصص تبين لنا أن الإثم بحد ذاته ليس هدفا أساسيا في الإسلام بل هدف ثانوي، وأن عقاب المخطئين والآثمين لم يكن أبدا أمرا أساسيا بالدِّين، فإن التركيز على زرع الخير في النفوس، وتفهيم الناس أصول دينهم، والرفق واللين بالتعامل مع الناس كفيلٌ بهداية البشر واجتثاث الشر والفتنة بدلاً من التركيز على عيوبهم التي لا تنتهي وهذا في أصل فهم الدين وفقهه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.