من رآى منك الجبين ليس ينسى
فلتكن في قلبه نورا وأنسا
* * *
كانت الأناضول ملاذ الهاربين من وسط آسيا حين تبدد الأمن في بلاد المسلمين أمام جحافل المغول، وكانت الدولة السلجوقية تسمع قرقعة أعمدتها منذرة بسقوطها، حين ولد يونس امرى في قرية قريبة من سقاريا، طفل تركي ولد إذا في عهد الاستقرار الزراعي التركي، ولم يشهد زمن الرعاة الرحالة الأبطال، ولد وقد حلّت رموز الطبيعة الخضراء موضع الحيوانات في الشعر التركي، ولد والدرويش الذي يحسن قراءة قوانين الطبيعة قد حل محل البطل الرعوي الذي قامت عليه الأعمال التركية القديمة مثل "ملحمة أوغوزقاغان" وكتاب "حكايات دادا قورقوت".
لم يتلق علما، سوى ما ألقاه الله في روحه من عرفان. هذا أقوى الأقوال في علمه، غير أن مصادر أخرى تقول إنه كان لديه من العلم ما يفهم به فارسية جلال الدين الرومي إذ صحبه في قونية، وكانت آنذاك منزل العلوم في الأناضول، أما هو فيقول:
لا علم عندي،
ولا إحاطة،
ولا قدرة لدي،
ولا طاقة،
ولكن عنايتك يا إلهي،
هي التي أنارت وجهتي.
ومن هذا الضياء
تتنـزل الأشعة النورانية،
لكل كلمة في الأرض أو في السماء،
ويونس المسكين ليس له حظ
من علم القراءة والكتابة…
هذه الأمة، وإن كانت قد افترقت مصداقا لحديث رسول الله إلى هذه الفرق، ولما لم نكن نعرف أيها الناجية، فإن الانشغال بتصنيفها عصيان، وإن فعل ذلك ذا عمة وجبة |
ولعل هذه الأمية التي كانت له، هي التي حفظت له صفاء لغته التركية، إذ يعد من أوائل الشعراء الأتراك الذين قل في شعرهم استخدام مفردات من لغات أخرى، عربية أو فارسية، ما جعل شعره مصدرا صافيا للغة التركية، وما منحه هذه الرمزية الخاصة في الثقافة التركية، وجعل اسمه علامة للمراكز الثقافية التركية في العالم، سواءً بجوتة في الثقافة الألمانية.
أما المعرفة، ورغم هذه الأمية فقد جاءته من المسجد إذ يقول:
عبَدتُ كثيرا؛
في المسجد، والمدرسة،
واحترقت بنار العشق،
فتوهجت معرفتي،
وما وجدته في قلبي،
هما العلم والوصول…
وهذه المدرسة، تنفي في الحقيقة الأمية، إلا أن يكون إدراكه للعلم مغاير لما نعرفه من تعريفه، فالعلم الذي لا يكون بابا للوصول، هو الأمية الحقيقية.
كانت الصوفية ملاذ النفوس في أزمنة الفتن، لا هربا من القتال في الحقيقة، بل حفظا لنفس الأمة من أن يفسدها الطغيان، فكلما زاد خروج الإنسانية عن ميزان اعتدالها، زادت الحاجة لتربية النفس على تبَيّن الجمال في العالم، وقد ستره الغبار ورائحة الدم.
القلب عند يونس، عرش الحق:
نظرَ الحقُّ إلى العرش
من تطهّر قلبه
فما أسعده في الدارين.
وهو بيت يجمع الأمة كلها فـ "من لا ينظر بعين المساواة،
إلى شعب الاثنين وسبعين أمة،
فهو في الواقع عاص،
حتى وإن كان ذا عِمّة وجبّة.
فهذه الأمة، وإن كانت قد افترقت مصداقا لحديث رسول الله إلى هذه الفرق، ولما لم نكن نعرف أيها الناجية، فإن الانشغال بتصنيفها عصيان، وإن فعل ذلك ذا عمة وجبة، فــ "ليست الدروشة، بالتاج والخلعة، بل الدرويش المفعم قلبه بالحب"
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.