منذ ما قبل نكبة عام 1948 بدأت ملامح تشكل تجمعات بشرية من الشعب الفلسطيني خارج حدود فلسطين التاريخية وبدأت تتوزع على معظم عواصم العالم شرقه وغربه وبنسب متفاوتة ما لبثت أن تضخمت هذه التجمعات على مدى سنوات القضية التي قاربت السبعين عاما حتى نشأ جيلان كاملان في المهاجر والشتات.
لكن ورغم هذين البعدين -المكاني والزماني- على مدى أجيال بقيت معظم هذه الكتل ترتبط ارتباطا وثيقا بأرضها ووطنها السليب وتاريخ آبائها وأجدادها؛ فتجد الطفل في أقصى الأرض يعرف من أي قرية هو ولأي قضاء تابعة هذه القرية ولأية محافظة؛ تجد الشباب قبل الكبار يتغنون على صفحات التواصل الاجتماعي بفلسطين وقراها وتراثها وفنها و(أكلاتها) ومواسم الحصاد فيها وزيتونها وزيتها وقدسها؛ بل تجد التمني الذي يصل أحيانا كثيرة إلى اليقين بإصرار وعزيمة على العودة لترابها.
هذه الظاهرة ولا شك محط أنظار (الصهاينة) الذين قد لا يزعجهم شيء بقدر إصرار الفلسطينيين على حق العودة وعندما أقول (الفلسطينيين) هنا فلا أعني المستوى الرسمي -الذي غسل الشعب في الداخل والخارج يديه منه – بل أعني الشعب بكافة أطيافه وأجياله وانتماءاته وخلفياته الفكرية والأيديولوجية.
لإن قالوا يوماً أن فلسطين طائر بجناحين الضفة وغزة – مع تحفظي على هذه العبارة – فروح الطائر هذا موجودة في الخارج؛ لا لست مبالغا … ففي الخارج في أي تجمع فلسطيني – ولو كان آنيا – تعيش فيه كأنك تحيا في فلسطين بكافة تفاصيلها اليومية.. معيشتها.. مشاكلها.. أفراحها.. أحزانها.. تلها.. سهلها.. جبلها.. باديتها.. تراثها.. فنّها.. صمودها.. مقاومتها.. أسراها.. شهداؤها..
لقد قدم أهلنا في الداخل كل ما لديهم ولازالوا يقدمون وسيظلون فهم الأقدر على الصمود رغم كل المحن والمكائد والحروب والضغوطات، لكن لازال عند أهل فلسطين الخارج الكثير ليقدموه |
لطالما كان لفلسطينيي الخارج دور في مختلف مراحل النضال الفلسطيني؛ فمن الخارج انطلقت معظم حركات التحرر والمقاومة الفلسطينية، بل وانطلقت العديد من عمليات المقاومة داخل وخارج فلسطين، ومنه حُشد الدعم الشعبي الهائل لشعب فلسطين في الداخل على مدار عقود ولازال، بل ومنه انطلق العمل السياسي الداعم للقضية.
وحقيقةً لم يخب هذا الدور-السياسي – إلا عندما أدرك العدو الصهيوني خطورة هذا الكيان المتجمع خارج فلسطين فحيّده بتوقيع اتفاقية أوسلو التي جاءت مخيبة للآمال فأُطفأت جذوة الانتفاضة الكبرى ومعها طُمس صوت فلسطينيي الخارج وأصبح القرار الفلسطيني السياسي يصدر من الداخل بل ومن طيف واحد يتحكم في الكل الفلسطيني وهو لا يمثله حق التمثيل.
لقد جرب الفلسطينيون تقريبا كل الحلول الممكنة في سبيل نصرة قضيتهم وتحقيق أهدافهم المتمثلة في التحرير والعودة لكنها فقدت عنصر التكامل الزماني والمكاني فعجزت عن تحقيق أهدافها. فعندما كانت المقاومة من الخارج على أشدها لم يكن هناك صوت سياسي قوي حكيم نزيه يرشّدها ويستفيد من منجزاتها، وعندما اشتدت المقاومة في الداخل لم يكن الصوت السياسي الداخلي مستثمرا لمنجزاتها أيضا، بل وكان معطلا وحجر عثرة في طريقها.
أما وقد اتضحت الصورة واكتمل الفهم وازداد الوعي بضرورة تكافل كل الجهود في الداخل والخارج فلا بد أن يكون لفلسطينيي الخارج صوت مسموع ودور ملموس في القرار الفلسطيني فهم :
– القادرون على التحرك في أماكن شتاتهم وتجمعاتهم لحشد دعم الشعوب للقضية.
– يستطيعون تشكيل (لوبيات) ضاغطة على حكومات الدول التي يتواجدون فيها لتوجيهها ضمن مصلحة القضية.
– مخزون البشري المتنوع في الطاقات والمواهب والإبداعات التي من الممكن أن تكون عونا وسندا لصمود الشعب في الداخل.
– لديهم من الإمكانيات المادية – لو اتحدت – لإنشاء صناديق استثمار قانونية تقوم بعمل مشاريع تنموية في الداخل والخارج تعزز من صمود شعبنا.
– يملكون القدرة على مخاطبة العالم باللغات التي يفهمها إنسانية كانت أو إعلامية أو قانونية أو دبلوماسية بهدف توضيح وتحسين الصورة الذهنية لشعبنا في الداخل ولقضيته العادلة.
– القادرون على مواجهة (اللوبي الصهيوني) المنتشر في أصقاع الأرض إذا ما كانوا يسيرون وفق خطط ومناهج واضحة.
– القادرون على فهم التغيرات التي يمر بها العالم حول (فلسطين) وكيفية تجنيب القضية محاولات عزلها وتهميشها بل واستثمار هذه التغيرات لصالح القضية لأنهم ببساطة يعيشون في خضم هذه التغيرات.
آن لفلسطينيي الخارج أن يكون لهم تجمع ينطلقون منه؛ ليعرف العالم أن هناك شعب ينتظر العودة بالملايين لأرضه ولأهله ولجذوره التي لم ولن يُقتلع منها. لقد قدم أهلنا في الداخل كل ما لديهم ولازالوا يقدمون وسيظلون فهم الأقدر على الصمود رغم كل المحن والمكائد والحروب والضغوطات، لكن لازال عند أهل فلسطين الخارج الكثير ليقدموه، وإن كان عند فلسطينيي الداخل حلم التحرير فلأهلنا في الخارج حلم التحرير والعودة، ويشتركان معا في حلم لم الشمل.
ولقد آن للقوى السياسية المختلفة أن تستثمر هذه التجمعات البشرية الضخمة خارج فلسطين بعيداً عن الحسابات الفصائلية والحزبية الضيقة والتي أثبتت فشلها الذريع على مدى عقود.وقد استبشر كثير من الفلسطينيين و المحبين لفلسطين والمناصرين لقضيتها بالإعلان عن المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج والذي سيُعقد في اسطنبول في الخامس والسادس والعشرين من فبراير الحالي باعتباره أول تجمع فلسطيني تحت هذا الاسم ربما منذ نكبة عام 1948.
ورغم كل اللغط والاعتراضات التي صاحبت الإعلان عن المؤتمر – من طرف مجموعة ظنت أنها الوريث الوحيد للقضية والشعب، وقد أُعطيت الفرصة كاملة على مدار عقود، فلا هي حلّت القضية ولا هي أعادت الشعب لوطنه الذي أُخرج منه قسرا وعنوة- إلا أن المراقب يلحظ أن أيدي القائمين على هذا المؤتمر ممدودة للكل الفلسطيني للمشاركة والمساهمة في خدمة القضية عبر هذه الوسيلة العصرية (المؤتمر) ودليل ذلك أنهم لم ينجروا إلى مربع (الردح) وتبادل النقد والتخوين …. الخ والذي تعودنا عليه (فلسطينياً) منذ عقود. وأنا كفلسطيني آمل أن يكون انعقاد هذا المؤتمر بداية انعطافه تاريخية في تاريخ هذه القضية التي باتت ولا شك محور الصراع والنزاع في العالم كله لا المنطقة فحسب؛ فإن حُلت فقد عمّ الاستقرار.
ننتظر نتائج المؤتمر لنرى أي أمل جديد سيقدمه لفلسطيني طُرد من أرضه وآخر وُلد وعاش خارج فلسطين ويحلم بعودة تقر عيناه بها وثالث يأمل بلم شمله مع أهله وأبناء عمومته، أمل.. مجرد أمل.. ففلسطين تعيش على هذا الأمل منذ سبعين عاماً.. أملٌ يحاول الصهاينة إجهاضه بكل ما أوتوا من قوة وعزم.. لكنه يتجدد في كل حين.. فهل سيضيئ (المؤتمر) شعلةً لتكون بارقة أمل جديد نحو عودة تتحقق؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.