وكحال طائر الفينيق الأسطوري نرى مدينة غزة، تلك المدينة الساحلية الفلسطينية الجميلة التي تمتد على مساحة لا تتجاوز ال 56 كم2. مساحة وإن صغر حجمها واكتظت بالأعداد الكبيرة لسكانها، إلا أنها تحمل في شواطئها وشوارعها وأحيائها وبيوتها سحراً وبريقاً يأبى أن يفارقها. غزة التي سطرت على مر العقود الماضية وحتى يومنا هذا قصصاً في الصمود والتحدي لم يسبق أن شهد مثلها التاريخ الإنساني.
فرغم المعاناة من الاحتلال، مروراً بالحروب والحصار وسياسات التجويع و الترهيب والعقاب الجماعي، إلا ان أهل غزة استطاعوا أن يرسموا للبشرية صوراً فريدة للإصرار على البقاء وحب الحياة، إذا ما استطاعوا إليها سبيلاً.
وبالحديث عن أهالي غزة، نجد أنهم قد أصبحوا المعادلة الصعبة التي لا يستطيع أياً كان أن ينكرها. فرغم ما يعايشونه من ظلم وحصار ودمار، وما يعانونه من فقر وبطالة وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية كالأمن والمأكل والمشرب والملبس والكهرباء والرعاية الصحية، إلا أنهم مستمرون في إدهاش العالم يوماً بعد يوم بقدرتهم على الثبات والدفاع عن قضيتهم الإنسانية العادلة، ألا وهي "الحق في الحياة و البقاء".
رغم المعاناة من الاحتلال، مروراً بالحروب و الحصار و سياسات التجويع و الترهيب و العقاب الجماعي، إلا ان أهل غزة استطاعوا أن يرسموا للبشرية صوراً فريدة للإصرار على البقاء وحب الحياة، إذا ما استطاعوا إليها سبيلاً. |
ولكني أتساءل هنا، إلى متى سنستمر في رؤية غزة كطائر الفينيق الذي ينهض من رماد النيران التي تحرقه مرة بعد مرة، دون أن نأخذ بالحسبان ونفكر ونشعر بجدية بما يعيشه ويعانيه أهلها أثناء احتراقهم بتلك النيران على أرض الواقع! فعلى خلاف طائر الفينيق، فإن أهل غزة ليسوا بأساطير أو كائنات فضائية لا تشعر ولا تتألم؛ بل هم بشر من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس وقدرة على التحمل والصبر.
إن حياة الغزاوي ليست مجرد شعارات أو قصص أو أرقام يمكننا أن نرخصها باستخدامنا لها في كتاباتنا أو أحاديثنا وخطاباتنا الرنانة أو النشرات والتحليلات الإخبارية، فلكل منهم قصته وبصمته وظروفه وأهله وأحلامه وطموحاته التي يسعى إلى تحقيقها بشتى الوسائل كغيره من البشر. ولكن، لا يسعه إلا أن يتمسك بأمل أن يكتب له القدر أن ينالها يوماً ما.
فبين ما يعيشونه من همجية احتلال يضرب بعرض الحائط كل معايير الإنسانية، وبين حصار وظلم وتضييق وتواطئ دولي من البعيد والقريب، يجد أهل غزة أنفسهم محاوطين بالظلمة في نفق لا يعلمون إن كان ما ينتظرهم في نهايته هو نور الخلاص أم جداراً آخراً تتحطم عنده تلك الآمال والأحلام.
معاناة أهل غزة لا تقتصر على ما يحدث لهم داخل حدودها فقط، بل إنها تمتد لتلاحق حتى من أسعفهم حظهم أو كتب لهم أو عليهم أن يغادروها راغبين أو كارهين. فمن كان يأمل منهم بأن ينجوا من تلك الظروف الأشبه بالحياة مع وقف التنفيذ عبر السفر أو الخروج -الشبه مستحيل- منها، يجد أنه قد دخل نفقاً لا يخف دماس ظلمته بكثير عن النفق الأول.
فمن تضييق ومنع معظم الدول العربية والغربية لهم من الدخول أو الإقامة أو المرور أو العمل فيها، ناهيك عن أشكال الإذلال والعنصرية التي يتعرضون لها في المعابر الحدودية والمطارات وحتى المؤسسات المختلفة، يجد أهل غزة أنفسهم مكبلين بسلاسل وقيود تعيدهم للهيب نيران الظلم واليأس من حياة وهبهم إياها رب العالمين، ليسلبهم إياها البشر.
هذا، ومع ما تشهده دولاً عربية وإسلامية اليوم كسوريا والعراق واليمن وغيرها من حروب ودمار ودموية لا تقل ضراوتها عن ما عاشته وتعايشه غزة، أصبحنا نشهد تهميشاً وتجاهلاً لمعاناة غزة، بل وغابت معاناتها عن معظم جداول الأعمال السياسية والدولية، وكأنها لم تعد تستحق حتى أن يوليها العالم اهتمامه أو أن يعترف بها كمأساة إنسانية طال أمدها ولا بد من حلها. ليترك طائر الفينيق على حاله، يصارع نيرانه بنفسه، مسلّمين بأن ما يحدث له هو قدره ونصيبه الذي عليه أن يتعايش معه. أو كما يقال "يبقى الحال على ما هو عليه".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.