شعار قسم مدونات

الولايات المتحدة الأميركية ومتاهة الإستراتيجية الكبرى

blogs- الولايات المتحدة

ساعد انتصار المعسكر الغربي على المعسكر الشيوعي في الحرب الباردة الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم، فهي بلا منازع تحتكر مركز التفاعلات الكونية، ورغم الانتكاسات التي اعترضت طريق الولايات المتحدة الأمريكية في عصر ما بعد الحرب الباردة فإنه علينا الاعتراف بأنها لا تزال صاحبة أكبر اقتصاد على مستوى العالم، وذلك وفقًا لقيمة الناتج المحلي الإجمالي. وإلى جانب الهيمنة العسكرية المفرطة تتمتع الأفكار السياسية والاقتصادية الأمريكية بجاذبية عالمية واسعة بفضل نظام العولمة الذي صيغت مضامينه في الأروقة الأمريكية.
 

وفي ضوء التغيرات الجارية في ميزان القوى العالمي بين الولايات المتحدة والعديد من القوى الكبرى -فضلًا عن قيام قوى طموحة لها تطلعات عالمية- تزداد مخاطر نشوب الحروب الوقائية، وبالمثل قد يؤدي التنافس الدولي على السيادة الإقليمية في مناطق حيوية إلى نشوب حروب كبرى، وبالتالي فإن البحث عن الاستقرار الإستراتيجي في العالم يعتبر المهمّة الكبرى للفاعلين الدوليين. وإلى جانب ذلك تزداد الأعباء الملقاة على عاتق الولايات المتحدة بالحفاظ على مكانتها العالمية في إدارة شؤون العالم. وليس ثمة شك في أن مواجهة مثل هذه المهمة سيشكل تحديًا شاقًّا يتوجب على الولايات المتحدة أن تضطلع به بصورة إيجابية حفاظًا على مكانتها العالمية الفائقة.
 

وبعد فترة من الغموض والتردد قررت الولايات المتحدة أن تأخذ على عاتقها مهمة "احتواء" المد الشيوعي في العالم، الأمر الذي أدى إلى اندلاع صراع كوني عارم، سُمي بـ "الحرب الباردة".

إن الرؤية الإستراتيجية والإستراتيجية الكبرى مرتكزان مهمان للغاية لكونهما يشكلان البوصلة التي تحدد الاتجاه لدى الأمم، والذي على هديه يتم صياغة الخطط الدفاعية والسياسية للبلاد، وإن فقدت الدولة هذه الميزة فإنها بطبيعة الحال سوف تفقد زمام المبادرة في الفعل، وستظل أسيرة حالة ردة الفعل تجاه التفاعلات في العالم. لذلك إن غياب الإستراتيجية الأمريكية الكبرى سوف يُفقدها ميزة التحكم في الصراعات والأزمات المزمنة، وسوف تضطلع بأدوار سلبية في تقييم القرارات السياسية التي ترتبط بالقضايا ذات الأهمية الحيوية لأمريكا.
 

كان لدى الولايات المتحدة الأمريكية -خلال القرن التاسع عشر وصولًا إلى تفاعلات الحرب العالمية الأولى- إستراتيجية قومية أرخت بظلالها على المسار الذي انتهجته الولايات المتحدة ما أعطى لشأنها الداخلي أولوية أكبر بكثير من الاهتمام بالشؤون الخارجية، سُميت هذه الإستراتيجية بـ "البناء الفارق" التي انعكست في إقامة حكومة وطنية قومية وتثبيت النظام الداخلي للسلطة السياسية، فضلًا عن توسيع النشاطات الاقتصادية، وزيادة القدرة الصناعية للبلاد. وسرعان ما تجلت آثار هذه الإستراتيجية في تدعيم قواعد الثقافة الأمريكية، وتطوير البنية التحتية الوطنية للاقتصاد الأمريكي. وقد برهن انتصار الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الأمريكية الإسبانية في نهاية القرن التاسع عشر على أن الولايات المتحدة أصبحت قوة عالمية.
 

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى اتجهت الولايات المتحدة إلى الانكفاء على الذات، وعدم التدخل في الشؤون الدولية ضمن إستراتيجية "الانعزال" التي حكمت توجهات السياسة الأمريكية، وقد استمر هذا النهج حتى دخول الحرب العالمية الثانية، وتنامي الأخطار الجيوسياسية لألمانيا النازية، فبدأت الولايات المتحدة بتوريد العتاد العسكري اللازم إلى الحلفاء عن طريق قانون (الإعارة والتأجير)، وقد كان لهجوم قاعدة بيرل هاربر من قبل اليابان أثر حاسم في تغيير النسق العقدي في سياسة أمريكا العالمية، فبدأت في اقتحام التفاعلات الدولية بشكل لا يسترعي الانتباه في فترة زمنية فارقة.
 

إن من المعطيات الواقعية لاندلاع الحرب العالمية الثانية تبلورَ نظام دولي ثنائي القطبية إبّان انتقال معايير القوة النسبية إلى أيدي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، الأمر الذي انعكس على تقسيم العالم إلى كتلة شرقية وأخرى غربية، وبعد فترة من الغموض والتردد قررت الولايات المتحدة أن تأخذ على عاتقها مهمة "احتواء" المد الشيوعي في العالم، الأمر الذي أدى إلى اندلاع صراع كوني عارم، سُمي بـ "الحرب الباردة".
 

لكن هذه الإستراتيجية الكبرى استنفدت أغراضها بانهيار جدار برلين، ولم يعد هناك حاجة للعمل بإستراتيجية الاحتواء، ولهذا لم تتبلور أي إستراتيجية كبرى رغم الجهود المبذولة في هذا الصدد. ولقد وصل الفكر الإستراتيجي بصنّاع السياسات الأمريكيين إلى السعي نحو بناء إستراتيجية كبرى تتحكم في سلوكيات الولايات المتحدة تجاه الخيارات العظمى للبلاد التي سيكون لها بالغ الأثر في تشكيل مستقبل البيئة الدولية.
 

لقد وجدت الولايات المتحدة الأمريكية ضالّتها المنشودة "تحديد إستراتيجية عالمية كبرى" عشيّة هجمات 11 سبتمبر/أيلول التي مثلت انعطافة حاسمة على صعيد العلاقات الإستراتيجية العالمية والإقليمية، فقد تدهورت العلاقات بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، وبين العالم الإسلامي والعالم المسيحي. لقد أطلقت أمريكا صافرة الحرب على الإرهاب في كل مكان من العالم، وهي الإستراتيجية الكبرى الجديدة التي طغت على مضامين السياسة الأمريكية كافة، وقد وضعت كل شيء في السياسة الدولية في قالب التغيير، فالغالبية العظمى من دول العالم تعاطفت مع هذه الإستراتيجية، وأيّدت حق الولايات المتحدة في الدفاع عن نفسها والانتقام من الإرهابيين.
 

لعل الأهم هو التراكمات الواقعية التي خلّفتها السياسات الأمريكية المتشددة في أكثر من منطقة على مستوى العالم ما جعل السياسة الأمريكية غير مرغوب فيها بالنسبة للرأي العام العالمي.

وفي إطار هذه الإستراتيجية شُنّت حربين إقليميتين ضد أفغانستان عام 2001، وضد العراق عام 2003، لكنهما جلبتا الإخفاق والتقهقر على صعيد الاقتصاد المركزي الأمريكي، إذ أن انخراط الدول في الحرب -دون تحقيق أهدافها- يُسبّب استنزافًا لإمكاناتها الاقتصادية على النحو الذي اتضح في تباطؤ أداء الاقتصاد الوطني لدى الولايات المتحدة خلال العقد المنصرم، وصولًا إلى تأثر البنية الاقتصادية بالأزمة المالية العالمية. كل ذلك في ظل حقيقة ظهور قوى عالمية تمتلك من المقومات الاقتصادية ما يجعلها منافسًا حقيقيًّا للولايات المتحدة الأمريكية، مع الإشارة إلى أن القوة الاقتصادية لتلك الدول سوف يدفعها لتحسين قدراتها العسكرية في المستقبل، وهذا ما يُشكّل خطرًا على اضطلاع الولايات المتحدة الأمريكية بدور الزعامة العالمية في ظل وجود توجه عالمي لتقسيم الشؤون الإستراتيجية على القوى الكبرى الفاعلة في النسق الدولي.
 

لعل الأهم من كل ذلك هو التراكمات الواقعية التي خلّفتها السياسات الأمريكية المتشددة في أكثر من منطقة على مستوى العالم ما جعل السياسة الأمريكية غير مرغوب فيها بالنسبة للرأي العام العالمي، فلم يعد هناك اعتراف بالقوة العسكرية كمبدأ وحيد للتحكم في النظام الدولي. ونتيجة لذلك -ولأسباب سياسية واستراتيجية دقيقة- عكفت إدارة أوباما السابقة على بناء إستراتيجية قومية بديلة تمكنها من انتهاج سياسة أكثر اعتدالًا بكثير من إدارة الرئيس جورج بوش الابن في عدد من القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام الإستراتيجي.
 

وقد كان من الطبيعي -في ظل هذا الوضع- أن يحدث تغيّر جوهري، وأن يظهر نموذج جديد أو إستراتيجية كبرى جديدة تسترشد بها الولايات المتحدة عند صياغة سياساتها العالمية، ولكن ذلك لم يحدث رغم مرور ما يقرب من عقد ونصف على أحداث نيويورك. وعليه ما زالت بعض التساؤلات الدقيقة تطرح نفسها على ساحة النقاش، فهل الولايات المتحدة بحاجة فعلية إلى صياغة رؤية وإستراتيجية كبرى جديدة؟ وإذا لم يتم إيجاد هذه الإستراتيجية فما البديل الأمثل؟ وأي خروج مشرف سوف تسلكه الولايات المتحدة الأمريكية؟ وما انعكاسات مختلف الخيارات على السياسات الخارجية والأمنية للولايات المتحدة وخططها الدفاعية وإستراتيجيتها للأمن القومي؟
 

إن قضية اختيار إستراتيجية كبرى للولايات المتحدة الأمريكية سوف يشكّل تحديًا كبيرًا أمام إدارة الرئيس الخامس والأربعين "دونالد ترمب"، ودون أدنى شك فإن الأمر لن يخلو من مقاربة الصدام والحزم في السياسة الجديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.