ومع تهاوي الأنظمة الديكتاتورية التقليدية جنوب أوروبا، وأمريكا اللاتينية، وانهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وسقوط جدار برلين بما مثله من رمزية لتفرد المعسكر الغربي بالعالم، إضافة إلى ظهور الحكومات المنتخبة في دول أوروبا الشرقية، بدا المشهد وكأنه تحول عالمي نحو تبني الخطاب الديمقراطي الحداثي الغربي الذي قدم نفسه على أنه نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان، ومن ثم شكلت هذه التحولات تضخماً في الذات الغربية التي بدأت تسعى لفرض قيمها الحداثية على العالم من خلال توظيف معولم لأدوات الاتصال والتقانة والإعلام خدمة للنمط الثقافي الأمريكي باعتباره المعيار الأوحد على تقدمية الشعوب.
مع سطوع نجم الديمقراطية الليبرالية عالمياً، بما روجت له من قيم حداثية في مجال حقوق الإنسان، والحريات الفردية، والحقوق السياسية، وحرية التعبير، ظلت المنطقة العربية خاضعة لحالة من القهر الحضاري الغربي. |
وقد عبر المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، مُنظّر الديمقراطية الليبرالية الأشهر، عن هذه القناعة بقوله "إنه ليست هناك أيديولوجية ما يمكن أن تحل محل التحدي الديمقراطي التقدمي، فالملَكية بأشكالها المتعددة قد اضمحلت على نطاق واسع مع بدايات القرن العشرين، والفاشية والشيوعية لم يصدقا في طرحهما السياسي والاقتصادي والاجتماعي".
ومع سطوع نجم الديمقراطية الليبرالية عالمياً، بما روجت له من قيم حداثية في مجال حقوق الإنسان، والحريات الفردية، والحقوق السياسية، وحرية التعبير، ظلت المنطقة العربية خاضعة لحالة من القهر الحضاري الغربي، صاحب ذات الخطاب الحداثي التقدمي، متمثلاً في تكريس جهوده من أجل تغييب الإرادة الشعبية، وإدامة حالة التبعية السياسية والاقتصادية للمركزية الغربية، ومن جانب آخر تصدير خطاب ثقافي يعمل على تشكيل العقل العربي وفق النموذج الثقافي الغربي، مستغلاً تفوقه الاتصالي والتقني في إنتاج المعلومة وبثها في خطاب أحادي يهدف لإغراق الآخر معرفياً بدلاً من تبني خطاب متزن يقوم على التفاعل الثقافي المتكافئ.
سببت هذه المفارقة الصارخة بين البعد النظري للخطاب الديمقراطي الغربي من جانب، وتجلياته العملية البائسة على الأرض من جانب آخر، حالة استياء متجذرة لدى المواطن العربي الذي دأب على استماع تصريحات فصيحة لوزراء الخارجية الأمريكيين، حتى نهاية فترة أوباما، تتثاقل بالمثالية والأناقة حول ضرورة احترام حقوق الإنسان في العالم العربي، وقيم الديمقراطية، والحداثة، ولا بأس بقليل من التنديد ببعض الممارسات الرسمية غير الإنسانية بين الفينة والأخرى. في المقابل لم ير المواطن العربي من تجليات هذا الخطاب سوى ممارسات فاشية تتدثر بكلام جميل، ولعل قمة هذه الحميمية الخطابية تجلت في افتتاح الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما خطابه للعالم العربي من جامعة القاهرة بقوله: "السلام عليكم"، فكانت تلك دفقة عاطفية أخرى أنست قبيح الفعل حيناً من الدهر.
بين الوجه الكلامي الجميل للخطاب التقدمي الأمريكي وباطنيته النقيضة، كان على الضحية العربية مضاعفة جهدها حد الرهق لتقديم مقاربة واقعية مقنعة فحواها أن الذي يبتسم لها على شاشات التلفاز هو عينه من يوجه طعناته النجلاء إلى خاصرتها. وعليه فقد أضاف وصول الرئيس الأمريكي ترمب إلى سدة الحكم نقطة لصالح الحِجاج الشرقي على نحو أصبح معه المشهد أكثر إقناعاً واكتمالاً ومكاشفة.
ليس خطاب الرئيس الأمريكي الجديد المناقض للقيم الديمقراطية وحده مؤشراً على أفول نجم المشروع الحداثي ووصوله إلى غاية الإفلاس الأيديولوجي، بل كون هذا الخطاب ذي الطابع الفاشي ولد من رحم الآلة الديمقراطية، بمعنى أن الإرادة العامة الأمريكية لم تضل فحسب، بل ما عادت القيم الديمقراطية تطربها أو تقنعها، ومما يكسب هذه اللحظة التاريخية مزيداً من الزخم هو أن الخطاب الديمقراطي الليبرالي تلقى هذه الضربة في معركة داخلية على أرضه ومن حاضنته هذه المرة، وليس في نزال فكري أو أيديولوجي خارجي.
كما كان سطوع النجم الحداثي عالمياً، فإن أفوله عالمي أيضاً، يشهد بذلك صعود اليمين الغربي في أوروبا وميله نحو التقوقع على الذات وكيل الشتائم للعولمة وإقامة الحواجز مع الآخر الحضاري. |
لقد كان عسيراً على الخطاب الديمقراطي الليبرالي أن يتحامل على نفسه طوال هذه العقود من أجل أداء دور عسير يناقض فيه ذاته ليظهر بمظهر الفضيلة في خطابه أمام الآخر الحضاري، لاسيما مع الآخر العربي الإسلامي الذي ما زال تاريخ الصدام معه ساخناً بعد، فجاء الرئيس الأمريكي الجديد ليفقأ هذا الصديد المتعفن طوال عقود، وليكشف عن أن ما حصل ليس تحولاً أو انقلاباً في المشروع الحداثي الغربي، ولكنه ذات المشروع بلغ منتهاه، فأصبح يأكل قيمه التي كان بالأمس يباهي بها من حقوق فردية، وحرية ومساواة، وانفتاح على الآخر، وتعددية لا تعرف العنصرية.
وكما كان سطوع النجم الحداثي عالمياً، فإن أفوله عالمي أيضاً، يشهد بذلك صعود اليمين الغربي في أوروبا وميله نحو التقوقع على الذات وكيل الشتائم للعولمة وإقامة الحواجز مع الآخر الحضاري. وإذا كان مُنظّرو الديمقراطية الليبرالية قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة وهم يرقبون معقد آمالهم قد وصل إلى هذه النهاية البائسة، فإن العالم أجمع يرنو ببصره اليوم منتظراً مشروعاً فكرياً أكثر رقياً ليترجل نحو قُمرة القيادة العالمية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.