كجزائري، أتذّكرُ الأزمة الكُروية بين مِصر والجزائر بمرارة كلّما ذُكرت العلاقة بين البَلدين، أتذكّر كيف انحدر الإعلام السّاقِط أخلاقِيا بنا في حُفرِ الشِّقاق والفِتنة، لم تكُن سِوى مُبارات كرة قدم تأهيلية لِمونديال إفريقيا الأول الذي خرجنا مِنه من دورِه الأوّل.
أتذكرّ كلّ الكلام الذي قيل بين البلدين، كلامٌ يعُفّ اللِّسان عن ذِكرِه، لم تكُن سِوى مبارات كرة قدم بين الأشقّاء لولا السِّياسة فكانت الشّقاء.. مُنِي المنتخب المِصري الكبير بخسارة ذهبت معه أحلام كبار لاعِبي منتخب مصر الكِبار بالمشاركة في كأسِ العالم أدراج الرِّياح كما ذهبت معه آمال آل مُبارك في تورِيث الحُكم… أبناءُ مبارك الذين عادا مؤخراً إلى مُدرجات الملاعِب وغاب الجمهور..
شيءٌ آخر لم أستطِع محوهُ من ذاكرتي المُتعَبة..صمتُ أبوتريكة وهو اللاعِب الكبير الذي لم ينقُصه سوى تركِ أثرِه في كأسِ العالم ولم يُنقِص ذلك في قدرِ اللاعب العظيم من شيء !
بعد أشهرٍ معدودة من "مباراة أم درمان" قدِم أبوتريكة إلى الجزائر مع ناديه إلى الجزائر في إطارِ مسابقة كأس أبطال إفريقيا، هتف الجمهور الجزائري باسمه ووقف وصَفّق له عند خروجه من الملعب، ودمُ الجمهورِ لم يزل ساخِنا يومها مما كان يتلق واه من إعلامي مِصر السّاقطين! لم يمنع ذلك كلّه الجمهور الجزائري من أن يحتفِي بلاعب غيرِ عادي، ففي حضرة أبوتريكة لاتملِك القلوب إلا أن تُحبّه حتى وإن جاء إلى أضها لِيلعب ضِدّها، فأبو تريكة حالة فردية نادِرة جدّا، استدعت الجزائر أبوتريكة مِرارًا في كلّ احتفالٍ كُروي وتكريمي، فمن أكرم أبوتريكة فقد أكرم الرّياضة وأخلاقها !
أبوتريكة صامتٌ في دولة لم يعد ينفعُ فيها الكلام، صامتٌ في زمن الفوضى والتّشدقِ باللسان، ابوتريكة حمل راية مِصر عالياً، وارتقى بأخلاقِ الرّياضة في كلّ مَيدان! |
مرّت تقلُّبات كثيرة بِمصر بعد سقوط آل مُبارك وكالعادة لاعِبُنا الخلوق عرَف لِنفسِه مقامها فالتزمه! كان دائم الصّمت الّا في مناسبات قليلةٍ جدّا، كان مُواطِنا عاديا يهتمّ بأمرِه وأمرِ مِهنتِه ومُحِبّيهِ فقط، يبدوا أنّ ذلك لا يعد يرُوقُ لحُكومة الانقلاب ولا يكفي ! فإذا لم تَكُن معي فأنت ضِدّي..
لم يتكلّم أبوتريكة حتى بعدما أرادوا تشويه صورتِه وهيهات لهم ذلك، فأبوتريكة ملَك القُلوب بسنواتٍ قبل أن يأتي انقلابهم، لم يتكلّم حتى عندما تحفّظوا على أموالِه ومنعوهُ إيّاها، أبوتريكة اغتنى بِقلوبِ النّاس وبِحبّهم عمّا سِوى ذلك، وأكبر دليل على ذلك أنّه رفض أن يأخذ مُقابِلا عندما شارك في مبارات أبطال العالم في الكُويت! ذلك البلد الذي يسعى نظام الإنقلاب بالظّفر بحفنة "رُز" منها ومن جاراتِها دولِ الخليج ! أبو تريكة اكتفى بقلوبِ النّاس وبِشرف مقابلة أبطالِ العالم.
أبوتريكة صامتٌ في دولة لم يعد ينفعُ فيها الكلام، صامتٌ في زمن الفوضى والتّشدقِ باللسان، ابوتريكة حمل راية مِصر عالياً، وارتقى بأخلاقِ الرّياضة في كلّ مَيدان!
قرأتُ في تعليقات بعض المصريين الأحرار أنّ وصف اللاعِب الخلوق أبوتريكة "بالإرهابي" لن يُكرّه مُحبيه فيه بل بالعكس، سوف يُحبّبُ اليهم وصف الإرهاب، عندها أدركت خُطورة الوضع، لماذا يُجازف هذا النّظام بِتزوير هذا الوصف وتحويرِه، وكيف يُخاطر بجدّية الناس عِندما يكون الكلام عنِ الإرهاب الحقيقي ! كيف لهؤلاء القضاة أن يلعبوا بالألفاظ لا لِشيءٍ سِوى اشغال الرّأي العام عن قضيّة أرضِهم وحريّتهم ومعيشتِهم! في ذلك الصباحِ خرجت كلّ صُحف العالم بفضيحة وسمِ المصريين لِطلهم بالارهابي! تذكّرتُ قول الشّاعر:
يا ناطِح الجبل العالي لِيَكلُمه *** أشفِق على الرّأسِ لا تُشفِق على الجبلِ.
وقرأتُ أيضا تعليقاتٍ أخرى للإخوة المِصريين يدعون فيها بطلهم إلى الذهابِ الجزائر "فإنّ فيها رجالة جِدعان لا يُضامُ عِندهم بطل ولا يُهان فيها أميرٌ للقلوب" فتحمّستُ جدّا، وقُلت ليته يفعلها، فما أحوجنا لملِكٍ خلوقٍ في قنواتنا ومياديننا! ووالله لو قدِم لفرشنا له الأرض بساطا من مودّة، حبّ أبوتريكة سبقه الى كلّ أرض في العالم وصمته الجميل وصبرُه وابتسامته هي من فتحت له قلوب النّاس لِيتملّها، فعاش البطل..عاش الأمير، مرحبا بِك في بلادك فأنت لم تُغادرها يوما يا أمير القلوب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.