شعار قسم مدونات

مهاجرون إلى المنصورة

blogs - egypt

ولدت في مدينة هجرة، وأكتب هذه التدوينة في مدينة هجرة، ولم أعرف نفسي إلا مهاجرا لا مستقر له، ولأن المهاجر للمهاجر نسيب، فقد تذكرت مدينتي المنصورة، وهي مدينتي كونها مدينة أبي، وتذكرت أنها أيضا كانت مدينة هجرة، لسنا في هذه الهجرة المهاجرون، وإن كان جد أبي قد وفد إليها مهاجرا، وإنما المهاجرون قوم غيرنا، نزلوها قبل قرن من بلاد الشام.

 

في السكة الحديد الممتدة من ميدان المحطة إلى شارع بورسعيد في مدينتي البعيدة القريبة، يقع محل أحذية شهير شاغلا مدخل واحدة من أقدم البناياتفي السكة، كان الحزب الوطني "على عهد مبارك" يشغل أحد طوابق المبنى، وكان للطابق الثالث في المبنى مدخل خاص، وسلم خاص، وفي هذا الطابق كانت تسكن حكاية أول لبناني وصل المنصورة مهاجرا قبل قرن من الزمان.

 

صاحب البناية هو الكونت خليل بن فارس بن صعب بن إبراهيم صعب اللبناني الماروني، والمولود في قصبة بعبدا في جبل لبنان عام ١٨٤٢ ميلادية، والمعين بعد ذلك قنصلا لبلجيكا في المنصورة. جده صعب واحد من وجوه بعبدا وأثريائها، ومعارضيها أيضا. بلغ ثراؤه أن تحمل وحده ضرائب حاكم الجبل حين أراد أن يفرض على بعبدا ما يروض به أهلها، إذ كان الجبل كثير الثورة على حكامه العثمانيين، حتى أن فارس والد خليل قد نفي إثر اكتشاف مؤامرته على الأمير بشير حاكم الجبل إلى بلاد النوبة.

 

كانت دمياط أول من استقبل المهاجرين الجدد، استقر بها بعضهم ولا تزال حارة النصارى في دمياط شاهدة على تلك الرحلة، وأكمل آخرون طريقهم إلى القاهرة. وفي الطريق كانت المنصورة تغري من لم يصل بعد إلى العاصمة

لم يطل المنفى إذ توسطت له الحكومة الفرنساوية فأعيد إلى لبنان، غير أن تأزم الأوضاع في أعقاب أحداث عام ١٨٦٠، والتي شهدت حربا طائفية بين الدروز والموارنة، قد دفع الكثيرين من أهل لبنان للهجرة بحثا عن ملاذ آمنومتسع للعيش والعمل.

 

وعلى عرش مصر آنذاك الخديوي "الفرنسي" إسماعيل، وعماله ينحتون وجه باريس في قلب القاهرة، مانحا امتيازات وافرة لكل صاحب صنعة وفكرة وبشارة من أهل الشمال يستنبتها في بلاده.

 

مثلت الحرية التي أشاعها إسماعيل في مصر، إضافة للحياة الأوروبية الجديدة عامل جذب هام للنازحين اللبنانيين بحثا عن مستقر، فحملتهم المراكب من بحر لبنان إلى بحر دمياط، أكبر موانئ مصر آنذاك.

 

كانت دمياط أول من استقبل المهاجرين الجدد، استقر بها بعضهم ولا تزال حارة النصارى في دمياط شاهدة على تلك الرحلة، وأكمل آخرون طريقهم إلى القاهرة. وفي الطريق كانت المنصورة تغري من لم يصل بعد إلى العاصمة، أن فك رحلك وانعم ها هنا.  فاستجاب لها خليل ولم يكد يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، وبدأ تجارته فيها بما توفر له مما باع من أملاك أبيه في لبنان، ولم يمض على مقامه فيها خمس عشرة سنة حتى كان اسمه معدودا في أسماء وجهائها، وتزوج آنذاك من ابنة واحد من أعيان طائفة الروم الكاثوليك، وهي إميليا بنت حبيب أفندي قالوش، وأنجبت له عشرة أبناء، وقد أسس في المنصورة جمعية خيرية، وكنيسة للطائفة المارونية لا تزال باقية إلياليوم. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.