شعار قسم مدونات

لم تكن القدس يوماً عاصمة "إسرائيل"

blogs القدس

كتب الباحث الفلسطيني، محمد الأسعد، في دراسته "المخيِّلة الاستعمارية تقتلع مدينة من ماضيها وحاضرها: القدس العربية نموذجاً"، وحسب وصف أولي لما بدأ يحدث، وتكثف بخاصة بعد اتفاقيات أوسلو (1993)، ترسم الباحثة آنيتا فيتولو صورة لخطط "إسرائيل" السرية منذ العام (1991) وهي لم تعد سرية، مثل الاستيلاء على غربي سلوان وحـي الشيخ جراح، وإقامة شبكة طرق سريعة حول القدس، مثل الطرق الأخرى في فلسطين الشرقية، هدفها واضح في ربط المستعمرات الصهيونية وتطويق وإغلاق الأحياء الفلسطينية وتحويلها إلى معازل أو غيتوات حسب الاصطلاح الغربي. وتتضمن عملية الاستيلاء على البيوت والمباني شبكة معقدة من الإجراءات؛ تزوير الأختام؛ ونزع ملكية من يسمون "الغائبين" والـتلاعـب في مسألة الـمواريـث العربـية؛ والرشى والخدع الضريبية… واستخدام القوة المجردة.

 

والنتيجة هي إقامة مشهد طوبوغرافي مشوش وملفق يدعى "أورشليم"، يجمع بين بناء أحياء خاصة باليهود، والتنقيب واستخراج آثار معمارية قديمة أو وضع آثار ملفقة ونسبها إلى من يسمون "الإسرائيليين القدماء" اعتباطاً، وإقامة متاحف تروى بين جدرانها قصص توراتية لا علاقة لها بهذه الجدران ولا بما احتوته من عاديات أمام سياح يتعرضون للإيهام بأن ما يشهدونه هو ماضي "أورشليم" اللاهوتية، بينما الحقيقة هي أن ما يشهدونه هو ماضي القدس المغيَّب بسطوة النص والتلفيق والاحتلال، ولا شيء غير هذا.

 

التصريحات لكل من نتناياهو، وترمب، لا تنسجم دوما مع الحقائق التاريخية، فالقدس لم تكن في يوم من الأيام،
التصريحات لكل من نتناياهو، وترمب، لا تنسجم دوما مع الحقائق التاريخية، فالقدس لم تكن في يوم من الأيام، "عاصمة للشعب اليهودي"، لأنه لا وجود لليهود كـ"أمة وشعب وجنس"
 

في هذا السياق، يكرر رئيس وزراء العدو الصهيوني، بنيامين نتناياهو، الشعار المتأكل ــ "القدس كانت ولا تزال عاصمة الشعب اليهودي فقط". ويجيء بعد ذلك دور الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ليعلن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل". ومطالبته وزارة الخارجية الأمريكية ببدء الاستعدادات لنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.

 

اللافت للنظر أن التصريحات والمواقف لكل من بنيامين نتناياهو، ودونالد ترمب، لا تنسجم دوما مع الحقائق التاريخية، فالقدس لم تكن في يوم من الأيام، "عاصمة للشعب اليهودي"، لأنه لا وجود لليهود كـ"أمة وشعب وجنس"، ولا وجود لليهود كـ"هوية قومية أو عرقية مشتركة كمجتمع إنساني" [يُراجع في ذلك: جمال حمدان، "انثربولوجيا اليهود"  ــ  أرثر كوستلر، "القبيلة الثالثة عشرة" ــ شلومو ساند،"اختراع الشعب اليهودي"، وغيرهم].

 

علاوة على ذلك، إن الصورة التقليديَّة التي تُقدِّمها أسفارُ العهد القديم، عن أورشليم [القدس]، مطلع العصر الحديدي الأول، هي صورة مدينة داود، وسليمان؛ صورة مدينة كبيرة جميلة، ذات تحصينات، وقصور، ومخازن، ومعبد رائع الصُنع. وفي المقابل،؛ فإن مؤلَّفات صدرت حديثاً لـ طمسن، وديفيد جميسون درايك، تري أن أورشليم القرن العاشر قبل الميلاد، لم تكُن أكثر من بلدة صغيرة، لعبت دور السوق المحلى للمنطقة.

 

بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط "العهد القديم" بها

إن البقايا الأثريَّة التي اكتُشِفَت حتى الآن، لتدل على أن أورشليم كانت خلال القرن العاشر، والقرن التاسع قبل الميلاد، بلدة متواضعة، تشغلها بصورة رئيسية الأبنِيَة الإدارية، أما مساحتها، فلم تزِد عن 30 أكراً، ولم يسُكن فيها أكثر من 2000 نسمة. أي أنه في زمن ما من القرن العاشر، والتاسع قبل الميلاد، جرى تشييد بلدة جديدة، تحتوى على أبنِيَة عامة، ولكن من دونِ منطقة سكنيَّة واسعة. ونحن هنا نَصِف هذه البلدة بالجديدة؛ لأن بلدة عصر البرونز الوسيط، لم تكن قائمة خلال عصر البرونز الأخير، وعصر الحديد الأول. ومن المُستبعَد أن هذه البلدة، كانت عاصمة لدولة كبرى، كتلك الموصوفة في النَص التوراتي، مملكة "إسرائيل الموحَّدة" .

 

إذن لا وجود لشواهد أركيولوجيَّة مُقنِعَة، على وجودِ مملكة "إسرائيلية"، كانت عاصمتها في "أورشليم" [القدس]. فلا يمكن للمرء أن يتكَّلم على مملكة بلا سُكّان. ولا يُمكِنهُ أن يتكلَّم عن عاصمة، من دونِ بَلدة. والقِصص التوراتية ليست كافِيَة. [لمزيد من التفاصيل يُراجع مقالنا: كيف كذَب علم الآثار مملكة داوود القديمة؟]

 

وبالرغم من ذلك، تدل الشواهد الأثرية أن سكنى أراضي القدس، قد تم في العصر الحجري القديم الأدنى الثاني، الذي يؤرخ من حوالي 700,000 ـ 250,000 سنه خلت، فقد عثر الآثاري رينيه نوفل في مغارة "أم قطفة" شرقي القدس، وعلى مسيرة عشرة كيلو مترات للجنوب الشرقي من بيت لحم، بالقرب من "وادي المربعات"، على أدوات دقيقة، وأدلة استعمال النار. في العصر الحجري القديم الأدنى، وهو يؤرخ بين 250,000 إلى 100.000 سنة خلت، كشفت عن آثار في فلسطين، في مغارة "الزطية" شمال غربي بحيرة طبرية، وأم قطفة في القدس، ومغارة "الطابون" و"حولون" و"معان باروخ".

 

وتستمر آثار تواجد الإنسان في القدس طيلة العصور الحجرية القديمة، حتى نصل إلى العصور الحجرية المتوسطة، فمنذ حوالي عشرة آلاف سنة تقريبا ظهرت أولى التجارب الزراعية، فـ "الأدلة الآثارية والنباتية الحديثة تشير إلى أن زراعة القمح والشعير بدأت في فلسطين". وهذا ما دعي بـ "الحضارة الناطوفية"، التي سُمّيت بذلك باسم "وادي النطوف" شمالي غربي القدس، ودامت نحو ستة آلاف سنة اعتبارا من حوالى عام 12000 قبل الميلاد.  

 

في حوالي الألف السابع قبل الميلاد، ظهرت "الحضارة الطاحونية" (Tahunian Culture). التي نُسبت إلى وادي "الطاحون" في جبال القدس، وهي مرحلة متطورة عن الناطوفية، ومتكيفة أكثر وفق الأحوال المناخية الجديدة. فقد كان الموقع النموذج لها هو "أبو غوش"، بالقرب من القدس.[يُراجع كتاب: أحمد الدبش، "فلسطين من هنا بدأت الحضارة" (2017)]

 

إدوارد سعيد:
إدوارد سعيد: "يسقط على القدس فكرة لا تناقض تاريخها فقط بل وواقعها المعاش ذاته، فيحولها من مدينة متعددة الثقافات والديانات إلى مدينة "يهودية" منطلقاً وغاية"
 

تدل هذه المعطيات القليلة، على أن القدس كانت تتمتع بمكانة عظيمة، في تلك العصور. فإنه يصح لنا أن نطرح هذه المعضلة على أهل الاختصاص، لماذا فشلت جميع المساعي للبحث عن دليل أثري واحد، يثبت وجود "عبري/ إسرائيلي/ يهودي" في فلسطين عامة، والقدس خاصة؟! وهذا أمر معروف تماماً لدي أهل الاختصاص من علماء الآثار الذين طالما حاولوا العثور على على أى دليل آثارى، سواء كان كتابه أو نقشاً، أو حتى نقش يقبل التفسير، أو في نصوص تقبل ـ حتى ـ التأويل، فلم يفلحوا، ولن يفلحوا لأبسط الأسباب، وهو أن الـ "عبري/ إسرائيلي/ يهودي" لم يملك يوماً على بلادنا فلسطين، بل وليس هناك أقل دليل على أنه وطئ أرضها في زمانه.

 

ولن أمل من تكرار حقيقة معروفة، وهي أنه بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط "العهد القديم" بها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق.

 

ولستُ أجد كلاماً أختم به مقالي أصدق مما قاله المفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، عند حديثه عن القدس، التى عانت من البعد الاستعماري، الذي تسلط على جغرافيتها وتاريخها، حيث يقول: "يسقط على القدس فكرة لا تناقض تاريخها فقط بل وواقعها المعاش ذاته، فيحولها من مدينة متعددة الثقافات والديانات إلى مدينة "يهودية" منطلقاً وغاية، موحدة إلى الأبد تحت السيادة "الإسرائيلية" حصراً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.