ربما لا تملك تركيا الحق في مطالبة الأنظمة أو وضع شروط لقبول التعامل معها مثل تلك التي ترتبط بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، ولكن مع ذلك كان يجب على أردوغان أن يربط مساعداته المتدفقة منذ أعوام على هذا النظام الحاكم في السودان بما في ذلك زياراته، بنوع من الشروط الإنسانية مثلما تفعل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وبعض القوى الدولية مساعداتها، بشروط حقوق الإنسان والحكم الرشيد والنزاهة وغيرها، وإن كنا قد رأينا كيف كان الموقف الشخصي للرئيس التركي أردوغان من شخصي الأسد والسيسي، والحدة الكبيرة في التعامل مع الأخير في سلسلة طويلة من التصريحات، ورفضه حتى الآن للقائه برغم ما يمكن أن تقدمه مصر من فائدة اقتصادية عظيمة لتركيا نظرا للقوة الاستهلاكية للبضائع التركية، فإننا لا نرى ذلك في التعامل مع السودان.
وهنا لا يمكن التفريق بكثير بين نظامي الأسد والسيسي والنظام الحاكم في السودان، فجرائم مثل: التسبب بشكل مباشر في انفصال ثلث تراب الوطن، والحصار الذي يعانيه السودان منذ 28 عاما، وهجرة أكثر من 9 ملايين سوداني في سنوات هذا النظام، فضلا عن التشريد والقتل والتهجير الذي لازم تفجر قضيتي دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، في اعتقادي لا يقل كثيرا عما اقترفته تلك الأنظمة، خاصة وأن أردوغان قد اعتاد وتظاهر على إطلاق نصائحه ونداءاته الإنسانية، وعرف بمواقفه الأخلاقية ووقوفه الدائم في صف الجماهير والشعوب وضد الدكتاتورية والاستبداد، إن كان الحال كذلك، كان يجب على أردوغان أن يعلم ومنذ الوهلة الأولى له في السودان، الفرق بين الشعبي والرسمي في الاحتفاء به في الخرطوم.
فبينما تحتفي به الجماهير وعوام الناس، والتي قابلته ببقايا فرحة سرقتها من بين أحزانها المتجددة وهي تنظر له كقائد شعبي ناجح ومنجز وبطل نهضة تركيا ومفجر طاقاتها وتتمنى من الله أن يرزقها مثله، كانت الحكومة تنظر وتنتظر من هذه الزيارة أن تكسر عزلتها التي فعلتها بيدها وأن تكسبها زيارة أردوغان شرعية البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، وأن تلبسها ثوب القبول والشرف والتباهي الزائف بأنها وأردوغان في درجة واحدة من الاحترام والمجد والإنجاز. وكان على أردوغان أن يعلم أن مجرد استقباله للبشير في اسطنبول أو استقبال الأخير له في الخرطوم كدعم كبير له، كفيل بجعله يستهتر بمصير الشعب السوداني والتلاعب بمستقبله سنوات أخرى، كان على أردوغان أن يعلم أن "الله أكبر" التي هتف وتهافت بها أعضاء برلمان "السوق والقبيلة" حوله ليست تلك التي يعرفها أردوغان في صدق إيمانه الخاص به، وليست تلك التي يؤمن بها الشعب السوداني عن صدق وإخلاص، لكن هي العبارة التي بسببها لحق بالسودان ما لحق، للدرجة التي أصبح السودانيون يتحفظون في قولها بسبب استخداماتها الخبيثة عند النظام الحاكم، وأصبحت لسنوات كلمة الحق التي أريد بها فعل الباطل.
كان على أردوغان أن يستفسر، وهو العالم بالاقتصاد، عن أي شراكة استراتيجية له مع نظام وهو يفتتح له مرافق من قبيل "أول مسلخ، وأول مركز للولادة، ومسكن للطلاب.. إلخ". هل يعقل أن نظاما سياسيا ظل يحكم كل تلك الفترة من السنين، لا يملك حتى الآن مجرد مسلخ حديث أو مستشفى متطورا للولادة أو مجموعة آبار لمياه الشرب الصالحة هنا أو هناك؟ هل يعقل ذلك؟ وكيف نطلق عليها شراكة استراتيجية والسودان بهذا الوضع الاقتصادي المدمر والظروف الاقتصادية القاسية، والمضاغطات المالية المؤلمة التي تعانيها عملته، وتداعيات المقاطعات الاقتصادية الأوروبية والأميركية التي ألقت بظلالها على علائق السودان مع كثير من دول العالم.
أي شراكة استراتيجية هذه ونحن نفتقر للبنى التحتية الأساسية في الخرطوم العاصمة، وانعدامها في العديد من الولايات! وكيف لنا ذلك ونحن نفتقر لشارع واحد نموذجي في الخرطوم وبقية مرافق النقل والشحن! وباعتقادي، توفير شبكة ببنية تحتية في السودان أو بصورة عامة، أهم بكثير من إزالة القيود على التجارة، فالتحول الذي يخطط أن تشهده علاقات السودان بتركيا، يتطلب تطوير بنيات تحتية ذات جودة، فهنالك غياب شبه تام للخطوط الأرضية أو البحرية والجوية، هذا فضلا عن شكوى الجانب التركي من البيروقراطية والمماطلة الحكومية السودانية التي شكا منها كثيرا.
وبصفة صريحة، السفير التركي السابق بالخرطوم، جمال الدين ايدن، الذي تشرفت بأن أجريت معه حوارا قبل ثلاث سنوات، لم يكن ذلك بسبب ما يعتبره البعض ضعفاً للإرادة السياسية العربية، وإنما غليان السودان ومروره بتقلبات سياسية وصراعات داخلية قديمة وجديدة ومتجددة، يمنع إحراز أي تقدم في تنفيذ هذه الشراكة، وهذا يعني باختصار أنها لا توجد بيئة سياسية سليمة لحمل واستقبال تلك الشراكة الاستراتيجية. كان من الأجدى والأجدر بأردوغان أن يحدث الشعب السوداني، وخاصة الحكومة عن أن نجاحه الاقتصادي والقيمي معا، لم يكن ليكون بالأصل لولا احترامه لمبدأ علمانية الدولة التركية وأسسها البنائية المتينة.
إن التجربة التركية في نظام الدستور العلماني الديمقراطي أتاحت لحزبه الذي يتخذ من الإسلام وعاء له الوصول للحكم، وكان عليه إذا أن يحدثهم عن كيفية الاستفادة من تجاربه في انتشال بلاده من هوةٍ اقتصاديةٍ معلومةٍ إلى مراقٍ ارتقت إليها تركيا، لتزاحم اقتصاديات دولٍ متقدمةٍ في النمو والازدهار الاقتصادي الذي تتوق وتحلم به جماهير الشعب السوداني. وكم تمنينا لو أن خاطبه الشعب السوداني الذي بدأ يتحرر من أفكار من يحكمون ويكتبون تحت تأثير تشنج صدمة الحداثة ويتخلص من أفكار مصيدة الحركة الإسلامية السودانية. فهناك قضايا حياتية ومصيرية ضرورية كثيرة يمكن مناقشتها مع السودانيين بدلا من حديثه عن نظريات المؤامرة، وإصلاح مجلس الأمن. نقول ذلك لتفهم الجماهير السودانية أيضا أنه لا خلاص من التخلف إلا بالدولة المدنية بعلمانيتها وديمقراطيتها، بعيدا عن الهرطقة والسيوقراطية والشموليات.
كان عليه أن يعلم وهو يسعى لتطوير التعاون الاقتصادي وزيادة التبادلات التجارية وشراكاته الاقتصادية مع هذا النظام، أن كل ما يُجنى من هذه الأموال لصالح السودان لا يذهب إلا للدعم السريع وميكانزمات الحفاظ على السلطة. فالحرب في دارفور لم تبرح مكانها؛ حيث لا زالت قوات الجنجويد المعروفة بقوات الدعم السريع، ترتكب الفظائع في دارفور، وانتهاكات حقوق الإنسان في السودان ازدادت وتيرتها، ومصادرة الحريات العامة بلغت مداها الأقصى، ولا زال المواطنون في جنوب كردفان يعانون من الجوع والمرض منذ سنوات. كان على أردوغان وهو يفتتح المقار والآثار الجديدة والمعاد ترميمها في سواكن، أن يعلم أن السودان الذي عُرف بأنه واحد من أهم مراكز الوجود البشري القديم في العالم وأهم مناطق البحث الآثاري، أصبح بفعل هذا النظام عبارة عن حرب ودماء وتوحش في تصور الآخر.
ويجهل الكثيرون مكانه في الخريطة السياسية الدولية، بل والأغرب من ذلك أنه أوكل هذا النظام أمر السياحة في السودان لوزير ينتمي للجماعة الوهابية المعروفة بتشددها تجاه الآثار والتماثيل والمنحوتات التاريخية والفنون والرقص و"بناطيل الجنز"، والكثير من المظاهر الحياتية تماما كما هو حال داعش التي دمرت الآثار العظيمة لمدينة الموصل وأخريات. كان على أردوغان أن يعلم كيف أنّ تِلكُم الجامعة، جامعة الخرطوم التي كرمته بالدكتوراه الفخرية في القانون، كيف عصفت بها أهواء ذلك النظام المشؤومة، وتحولت بعد أن كانت تربطها علاقة توأمة مع جامعة لندن كأول جامعة إفريقية مرتبطة بجامعة لندن، وكانت من أفضل ثلاثة جامعات في الوطن العربي وأفريقيا، قد تحولت بفعل هذا النظام إلى جامعة نكره، وتذيلت قوائم جميع التصانيف الإقليمية والعالمية كما هو الحال في كثير من المؤسسات السودانية المعرفية والخدمية والاقتصادية التي دمر هذا النظام الحاكم بعضها وأعدم بعضها الآخر.
كان على أردوغان أن يعلم أن نفس القاعة "قاعة الصداقة" التي قدم فيها محاضرته الفكرية بالأمس، كانت قد استقبلت من قبل "أردوغان ماليزيا" مهاتير محمد، وقدم فيها محاضرته عن الحكم الرشيد، وروى فيها قصص نجاح ماليزيا ونهضتها الاقتصادية، ورغم احتفاء الحكومة واستماعها الجيد لتلك المحاضرة وغيرها، ولكنها لا تفعل شيئا، النظام فقط المستفيد برغم أنه يحكم لسنوات تعادل سنوات حكم أردوغان ومهاتير معا، يحاول توظيف هذه الفعاليات في تبييض وتلميع صورته من أجل حصد المزيد من العمر والكسب السياسي ليس إلا. أن تنسى تركيا أردوغان ذلك وتطلق لنفسها العنان في التعامل بسخاء مع هذا النظام، يظهرها وكأنها قد تخلت عن مبادئها ومواقفها الأخلاقية، هذا إن كان النظام الحاكم بالأساس يتفهم مثل هذه الأمور الشفافة في التعامل مع تركيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.