شعار قسم مدونات

الهزيمة من الداخل

Blogs- man
الهزيمة فعل إنساني ناتج عن صراع الأضداد، وقد يكون الضدُّ عدواً شخصياً أو عائلياً أو دولياً، وقد يأخذ الصراع منحى طائفياً أو عرقياً أو فكرياً فيقتتل أهل الوطن الواحد. ومهما طالت المعركة لا بد في النهاية من منتصر ومهزوم، ولا ثالث لهما، وغالباً المنتصر يكتب التاريخ، ويرسم الجغرافيا، ويعيد تشكيل الكرة الأرضية دون النظر بأي عين للطرف الآخر، وأعتقد أن ذلك حقٌّ له.
 
لكن أخطر الأعداء لا يكتفي بكتابة التاريخ، ولا برسم الجغرافيا كما يحلو له، بل نراه يكرّس الهزيمة في نفس العدو، فيقوم بكتابة نفوسهم، ورسم عقولهم، وتضييع بوصلتهم حتى لا يتمكنوا يوماً من ردِّ الهزيمة له، أو على أقل تقدير لا يقدرون على الوقوف من جديد. إنَّ أصعبَ الهزائمِ هي الهزيمةُ من الدّاخلِ، وذلكَ عندما يُكرَّس في أعماقِ الإنسانِ أنَّه مهزومٌ، ولا يمكنُ له القيامةُ بعدَ ذلكَ، فتلكَ لعمري هي الهزيمةُ الكبرى، التي لا يليها نصرٌ، وذلكَ هو التّطامنُ الذي لا يعقبُهُ ارتفاعٌ.
 
فلا عيبَ في الكرِّ والفرِّ في أيِّ معركةٍ، وإنَّه من يخسرْ اليومَ، يكسبْ غداً، وتلكَ هي سَنّةُ الحياةِ منذُ خلقَ اللهُ الدُّنيا، ولكنَّ الهزيمةَ من الدَّاخلِ هي أطولُ الهزائمِ، هزيمةٌ تستمرُّ أجيالاً وأجيالاً. ومن كوارثِ نتائج هزيمةِ الدّاخل، أن يشعرَ الإنسانِ بالصّلحِ معَ هزيمتِهِ، فينسَى أنَّه في معركةٍ أصلاً، ويسعى من تلقاءِ نفسِهِ أن يكرّسَ الحالةَ التي وصلَ إليها، فيكفي العدوَ عناءَ مهمّةِ تثبيّتِ حالةِ الهزيمةِ تلكَ، فيغدو المهزومُ كالبغلِ المُعمَّى يدورُ حولَ السّاقيةِ، فيظنُّ أنَّه وصلَ للصّينِ، بينما هو مازَال يدورُ في مكانَهُ حول السواقي في الشّرق الأوسط!
 

الواقع العربي الإسلامي يعجُّ بالأمثلة من المحيط إلى المحيط. ويبقى السؤال الكسيرُ يصيح مدوياً، متى نتخلص من هزيمتنا؟ متى يخلع الحصان العربي لجامه ويصهل في جنبات الكون معلنا وجوده؟
الواقع العربي الإسلامي يعجُّ بالأمثلة من المحيط إلى المحيط. ويبقى السؤال الكسيرُ يصيح مدوياً، متى نتخلص من هزيمتنا؟ متى يخلع الحصان العربي لجامه ويصهل في جنبات الكون معلنا وجوده؟
 

هزيمةُ الدّاخلِ تخرجُكَ من المعركةِ تماماً، وتصبحُ في حالةِ سلامٍ خادعٍ، تركَنُ إلى هزيمتكَ التي خسرَتَ خلالها كلَّ امتيازٍ منحَتْك إيَّاهُ الحياةَ، فتسلّمُ أسلحتَكَ ومصانعَ أسلحتِك، ومواردَ أسلحتِك، والعقولَ التي كانَتْ تصنعُ الأسلحةَ، والأيدي التي صنَعتْ الأسلحةَ والتي قد تستخدُمها فيما بَعد، فإذا سلَّمتَ هذا كلَّه عمدْتَ إلى تسليمِ قوْتِك وقوتِ عيالِكِ، ثُمَّ رهنْتَ نفسَكَ عندَ العدوِ الذي يصير يسيّرُكَ كيفَ يشاءَ، متى يشاءُ، وأينَ يريدُ، فتكونُ بذلكَ مسلوبَ الإرادةِ، خائرَ العزيمةِ، لا حولَ لكَ ولا قوةَ، فتصبحُ عبداً، لا يملكُ من أمرِهِ شيئاً إلا السّمعَ والطّاعةَ للسّيدِ.

 
ومن أساليبِ تكريسِ هزيمةِ الدّاخلِ، أنْ تشعرَ أنَّكَ لا يمكنُ لكَ بيومٍ من الأيّامِ الوقوفُ، فهوَ لا يكسرُ رجليكَ فقطْ، بل يكسرُ رجليكَ ويحرمُكَ أن تحلمَ بالوقوفِ عليهما، ويقنعُك أنَّ ذلكَ غيرُ ممكنٍ، وأنَّكَ لا تملُكُ من إرادِتكِ شيئاً، فاقعدْ وارمِ عنكَ كلَّ فكرةٍ قد تجعلُكَ تفكّرُ أنْ تفكرَ. لكنَّ أخبثَ فكرةٍ يصنعُها عدوّكَ كي يبقيَكَ عبداً له أبدَ الدّهرِ، ومهزوماً من الدّاخل، أن يخلقَ الصّراعاتِ بينَ الدّاخلِ عندَكَ، فيقتلُ الأخُ أخاهُ، وتغيرُ الذّئابُ على بعضِها، فيحطّمُك بذلكَ أيَّما تحطيمٍ، ويغرُسُ بذورَ الشّقاقِ والفراقِ، فيوفِّرُ على نفسِهِ تكاليفَ باهظةً، وذلكَ حينَ يُشغِلُ النّاسَ ببعضِها، ويَدخلُ بينهم مخرباً مفسداً.
 
وإنّهُ من يرَ حال العربِ والمسلمين في بقاع الأرض اليوم يعرفْ سبب نكستهم، إنها الهزيمة من الداخل التي أفقدتهم حسَّ المعركة، أذابت في نفوسهم حسَّ الشموخ، وأقعدتهم عن كل مطالبة بالكرامة، ثم أشعلت فتيل الحروب داخل المنزل الواحد، وأصبح كل فرد يستعين بالعدو الذي بات يقتلنا بأسلحتنا، وبأيدينا، دون أن يخسر قطرة دمٍ واحدة. وإنني لا أحتاج أن أضربَ الأمثلةَ على ذلك، فالواقع العربي الإسلامي يعجُّ بالأمثلة من المحيط إلى المحيط. ويبقى السؤال الكسيرُ يصيح مدوياً، متى نتخلص من هزيمتنا؟ متى يخلع الحصان العربي لجامه ويصهل في جنبات الكون معلنا وجوده؟
 

إن خلق الوعي لدى شريحة الشباب وتبصيرهم بمواطن القوة لديهم، ودعوتهم لشق طريقهم في هذه العباب الزاخر من المؤامرات الداخلية والخارجية لأمر ضروري كي نخرج من عنق الزجاجة
إن خلق الوعي لدى شريحة الشباب وتبصيرهم بمواطن القوة لديهم، ودعوتهم لشق طريقهم في هذه العباب الزاخر من المؤامرات الداخلية والخارجية لأمر ضروري كي نخرج من عنق الزجاجة
 

لقد مللنا الهزائم، ومللنا من التمثيليات المخزية التي تفتعلها الأنظمة العربية لتكرس الهزيمة في نفوس شعوبها، لقد ضاق الصدر، وأصبح البحث عن نجمة مضيئة أمراً ضرورياً في بحر الظلام الدامس الذي يعصف بنا منذ سنوات عجاف أتت علينا، وعلى وجداننا العربي الذي ثقبّته الهزيمة، ودمره الضياع، واشتاق لعناق المجد مرة أخرى.

 
وإن طرح الأسئلة دون إجابات هو من أشكال هزيمة الداخل، فمن الهزيمة أن نبقى نسأل أنفسنا؛ متى سوف نتخلص من الهزيمة، لقد جاءت الساعة التي يقف بها الشباب العربي أمام المرآة الحقيقة التي تعكس قواهم الحقيقة، وكي ينفضوا عنهم غبار الهزيمة المتجمع منذ سنوات عجاف. إن خلق الوعي لدى شريحة الشباب وتبصيرهم بمواطن القوة لديهم، ودعوتهم لشق طريقهم في هذه العباب الزاخر من المؤامرات الداخلية والخارجية لأمر ضروري كي نخرج من عنق الزجاجة، وكي نتخلص من هذه الهزائم المتتالية دون توقف.
 
ولنا نحن -العرب- في العصر الحديث عبرة -لو أننا نعتبر- لنا عبرة في شعبين نالتهما الهزيمة القاسية، وتهدمت أوطانهم ولم يبقَ لديهم شيء، لكنهم عندما لم تنجح معهم هزيمتهم من الداخل، لم تكن هزيمتهم هزيمة حقيقية بل هزيمة وقتية لم تستغرق إلا وقتاً من أجل النهضة من جديد، إنهم الشعب الألماني، والشعب الياباني، فهلا اتعظنا منهم، وأخذنا منهم العبرة لنقوم من جديد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.